الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        كتاب الحج

                                                                                                        ( الحج واجب على الأحرار البالغين العقلاء الأصحاء إذا قدروا على الزاد والراحلة فاضلا عن المسكن وما لا بد عنه ، وعن نفقة عياله إلى حين عوده وكان الطريق آمنا ) وصفه بالوجوب وهو فريضة محكمة ثبتت فرضيته بالكتاب وهو قوله تعالى: { ولله على الناس حج البيت }الآية ( ولا يجب في العمر إلا مرة واحدة ) { لأنه عليه الصلاة والسلام قيل له الحج في كل عام أم [ ص: 70 ] مرة واحدة ؟ فقال : لا بل مرة واحدة فما زاد فهو تطوع } ، ولأن سببه البيت وإنه لا يتعدد فلا يتكرر الوجوب ، ثم هو واجب على الفور عند أبي يوسف رحمه الله .

                                                                                                        وعن أبي حنيفة رحمه الله ما يدل عليه وعند محمد والشافعي رحمهما الله على التراخي لأنه وظيفة العمر فكان العمر فيه كالوقت في الصلاة . وجه الأول أنه يختص بوقت خاص والموت في سنة واحدة غير نادر فيضيق احتياطا ، ولهذا كان التعجيل أفضل ، بخلاف وقت الصلاة لأن الموت في مثله نادر .

                                                                                                        [ ص: 69 ]

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        [ ص: 69 ] كتاب الحج

                                                                                                        الحديث الأول : روي { أنه عليه السلام قيل له : الحج في كل عام ، أم مرة واحدة ؟ فقال : لا ، بل مرة فما زاد فهو تطوع } ، قلت : رواه أبو داود ، وابن ماجه في " سننهما " عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان يزيد بن أمية عن ابن عباس { أن الأقرع بن حابس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله الحج في كل سنة ، أو مرة واحدة ؟ قال : لا ، بل مرة واحدة ، فمن زاد فهو تطوع }انتهى .

                                                                                                        ورواه الحاكم في " المستدرك " ، وقال : حديث صحيح الإسناد ، إلا أنهما لم يخرجا لسفيان بن حسين ، وهو من الثقات الذين يجمع حديثهم انتهى . وسفيان بن حسين تكلم فيه بعضهم في روايته عن الزهري ، قال ابن حبان في " كتاب الضعفاء " : سفيان بن حسين الواسطي يروي عن الزهري المقلوبات ، وإذا روى عن غيره أشبه حديث الأثبات ، وذلك أن صحيفة الزهري اختلطت عليه ، وكان يأتي بها على التوهم ، والإنصاف في أمره تنكب ما روى عن الزهري ، والاحتجاج بما روى عن غيره انتهى كلامه .

                                                                                                        قلت : قد تابعه عليه عبد الجليل بن حميد ، وسليمان بن كثير ، وعبد الرحمن بن [ ص: 70 ] خالد بن مسافر ، ومحمد بن أبي حفصة ، فرووه عن الزهري ، كما رواه سفيان بن حسين ، ورواه يزيد بن هارون عن أبي سنان أيضا بنحو ذلك .

                                                                                                        أما حديث عبد الجليل بن حميد : فأخرجه النسائي في " سننه " عن موسى بن سلمة المصري عن عبد الجليل بن حميد عن الزهري به ، وكذلك أخرجه الدارقطني في " سننه " ، قال ابن القطان في " كتابه " : وموسى بن سلمة ، وعبد الجليل بن حميد اليحصبي مجهولا الحال ، فالحديث من أحدهما لا يصح ، انتهى .

                                                                                                        وحديث سليمان بن كثير : أخرجه أحمد في " مسنده " ، والدارقطني في " سننه " ، والحاكم في " المستدرك " ، وقال : حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه ، ولفظه : قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج ، فقام الأقرع بن حابس ، فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ قال : لو قلتها لوجبت ، ولم تستطيعوا أن تعملوا بها ، الحج مرة ، فمن زاد فتطوع }انتهى .

                                                                                                        وأما حديث عبد الرحمن : فأخرجه الحاكم في " المستدرك " عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن الزهري به ، سواء ، وقال : حديث صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه انتهى .

                                                                                                        وأما حديث محمد بن أبي حفصة : فأخرجه الدارقطني في " سننه " عن محمد بن أبي حفصة عن الزهري به ، باللفظ الأول . [ ص: 71 ] وأما حديث يزيد بن هارون : فأخرجه الحاكم أيضا عن سهل بن عمار العتكي ثنا يزيد بن هارون وسقط منه رجلان : سفيان ، والزهري عن أبي سنان عن ابن عباس أيضا باللفظ الأول ، وسكت عنه ، وله عند الدارقطني أيضا طريقان ، إلا أنهما واهيان جدا ، فأضربنا عن ذكرهما ، وجهل من عزا حديث ابن عباس لمسلم ، وإنما أخرج مسلم نحوه من حديث أبي هريرة ، وسنذكره في أحاديث الباب ، وقلده شيخنا علاء الدين ، فالمقلد ذهل ، والمقلد جهل ، والله أعلم بالصواب .

                                                                                                        أحاديث الباب : روى مسلم في " صحيحه " من حديث أبي هريرة ، قال : { خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج ، فحجوا ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قلت : نعم لوجبت ، ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه }انتهى . وأخرج البخاري منه : { ذروني ما تركتم } ، إلى آخره .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه الترمذي ، وابن ماجه عن عبد الأعلى بن عامر الثعلبي عن أبي البختري عن علي ، قال : { لما نزلت هذه الآية { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا }قالوا : يا رسول الله أفي كل عام ؟ فسكت ، ثم قالوا : أفي كل عام ؟ قال : لا ، ولو قلت : نعم لوجبت ، فأنزل الله { يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء } }الآية انتهى ، قال الترمذي : حديث غريب من هذا الوجه ، انتهى .

                                                                                                        قال محمد [ ص: 72 ] يعني البخاري : وأبو البختري لم يدرك عليا انتهى كلام الترمذي . وكذلك رواه البزار في " مسنده " ، وقال : أبو البختري لم يسمع من علي انتهى .

                                                                                                        وأخرجه الحاكم في " المستدرك في تفسير آل عمران " ، وسكت عنه ، ولم يتعقبه الذهبي في " مختصره " بالانقطاع ، ولكن أعله بعبد الأعلى ، قال : وقد ضعفه أحمد انتهى .

                                                                                                        وقال الشيخ في " الإمام " : قال عبد الله بن أحمد عن أبيه عبد الأعلى الثعلبي ضعيف الحديث ، وقال ابن معين ، وأبو حاتم : ليس بالقوي ، وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث ، ربما رفع الحديث ، وربما وقفه انتهى كلامه .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه أبو داود في " سننه " عن زيد بن أسلم عن ابن أبي واقد الليثي عن أبيه ، قال : سمعت { رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، لأزواجه في حجة الوداع : هذه ، ثم ظهور الحصر } ، انتهى ، ومعناه : أي الزمن ظهور الحصر ، قال ابن القطان في " كتابه " : وابن أبي واقد لا يعرف له اسم ولا حال ، قال الشيخ في " الإمام " : قد عرف اسمه من سنن سعيد بن منصور ، فقال : حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن واقد بن أبي واقد الليثي عن أبيه ، فذكره ، وذكره البخاري في " تاريخه " ، فقال : واقد بن أبي واقد الليثي لم يزد على ذلك ، والله أعلم .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه ابن ماجه عن محمد بن أبي عبيدة عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن أنس بن مالك ، قال : { قالوا : يا رسول الله الحج في كل عام ، فقال : لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لم تقوموا بها ، ولو لم تقوموا بها عذبتم }انتهى . ومحمد بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي المسعودي الكوفي خرج له مسلم عن أبيه ، واسم أبيه كنيته ، وأبو سفيان : طلحة بن نافع ، أخرج له مسلم أيضا ، والله أعلم .

                                                                                                        أحاديث الفور في الحج والتراخي : قال المصنف رحمه الله : ثم هو واجب على [ ص: 73 ] الفور عند أبي يوسف .

                                                                                                        وعن أبي حنيفة ما يدل عليه . وعند محمد ، والشافعي رحمهما الله على التراخي ، قال ابن الجوزي في " التحقيق " : وأحمد يقول بالفور أيضا ، واحتج له بحديث الحجاج بن عمرو الأنصاري : من كسر وأعرج ، فقد حل ، وعليه الحج من قابل ، ثم قال : وحجة الآخرين ما رووا عن أبي سعيد عن النبي عليه السلام أنه قال : { من أحب أن يرجع بعمرة قبل الحج ، فليفعل }.

                                                                                                        قال : وهذا حديث لا يعرف ، وإنما الذي روي : { من أحب أن يبدأ بعمرة قبل الحج فليفعل } ، وهذا هو التمتع ، قال : واحتجوا أيضا بأن فريضة الحج نزلت في سنة خمس ، بدليل ما رواه أحمد في " مسنده " من طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن الوليد بن نويفع عن كريب عن عبد الله بن عباس ، قال : بعثت بنو سعد بن بكر : ضمام بن ثعلبة وافدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له عليه السلام فرائض الإسلام : الصلاة ، والصوم ، والحج ، بعد أن ذكر التوحيد ، قال : وقد [ ص: 74 ] رواه شريك بن أبي نمر عن كريب ، فقال فيه : بعثت بنو سعد : ضماما في رجب سنة خمس ، قالوا : وإذا ثبت أن الحج وجب في سنة خمس ، فقد أخره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر ، فدل على أن وجوب الحج على التراخي لا على الفور ، قال : وجواب هذا أنه قد روي أن ضماما قدم في سنة تسع ، فإن صحت الرواية الأخرى ، فعن تأخيره عليه السلام إياه جوابان :

                                                                                                        أحدهما : أن الله تعالى أعلم نبيه عليه السلام أنه لا يموت حتى يحج ، وكان على يقين من الإدراك ، قاله أبو زيد الحنفي . والثاني : أنه أخره لعذر ، وكانت له أعذار : منها الفقر ، ومنها الخوف على نفسه ، ومنها الخوف على المدينة من المشركين ، ومنها غلبة المشركين على مكة ، وكونهم يحجون ويظهرون الشرك ، ولا يمكنه الإنكار عليهم ، فإن قيل : فكيف أخره بعد الفتح ، فجوابه من وجهين : أحدهما : أنه لم يؤمر بمنع حجاج المشركين ، فلو حج لاختلط الكفار بالمسلمين ، فكان ذلك كالعذر ، فلما أمر بمنع المشركين من الحج بعث أبا بكر في سنة تسع فنادى : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ثم حج عند زوال ما يكره .

                                                                                                        والثاني : أن يكون أخر الحج لئلا يقع في غير ذي الحجة من جهة [ ص: 75 ] النسيء الذي كانت العرب تستعمله ، حتى يدور التحريم على جميع الشهور ، فوافقت حجة أبي بكر ذا القعدة ، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي الحجة انتهى كلامه . قال صاحب " التنقيح " : وحديث ابن عباس رواه أحمد في " مسنده " مطولا ، وفيه محمد بن الوليد بن نويفع لا نفيع ، وهو الأسدي القرشي ، وذكره ابن حبان في الثقات وقد روى له أبو داود هذا الحديث الواحد مقرونا بغيره ، وهو سلمة بن كهيل ، كلاهما عن كريب وأما رواية شريك بن أبي نمر التي ذكرها ، فلا أعرف لها سندا ، والله أعلم انتهى كلامه .




                                                                                                        الخدمات العلمية