الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 394 ] 916 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إتيانه مسجد قباء وفي صلاته فيه .

5702 - حدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي قباء راكبا وماشيا [ ص: 395 ] .

5703 - وحدثنا يزيد ، حدثنا القعنبي ، حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .

5704 - وحدثنا الحسن بن غليب ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني الليث بن سعد ، عن ابن عجلان ، عن نافع مولى ابن عمر : أن ابن عمر كان يأتي مسجد قباء ويركب ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه راكبا وماشيا .

5705 - وحدثنا فهد بن سليمان ، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : لم يكن النبي عليه السلام يأتي شيئا من [ ص: 396 ] المساجد تلك إلا مسجد قباء ، قال : وكان ابن عمر يفعله .

5706 - وحدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا معن بن عيسى المدني ، عن مالك بن أنس ، عن عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء ماشيا وراكبا .

5707 - وحدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أخبرنا محمد بن جعفر ، أخبرني ابن دينار أنه سمع ابن عمر يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء ماشيا وراكبا [ ص: 397 ] .

5708 - وحدثنا يزيد ، حدثنا حبان بن هلال ، وشيبان بن فروخ ، قالا : حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

ففي هذه الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء ، وفيها ما قد دل على أن ذلك كان منه عادة من عاداته لأن في هذه الآثار : أنه كان يأتيه ، وليس فيها أنه أتاه ، فيكون ذلك على الإتيان مرة واحدة .

فقال قائل : فقد رويتم عن المعرور بن سويد ما قد تقدمت روايتكم إياه في هذا الكتاب ، أنهم كانوا مع عمر بطريق مكة ، فرأى أناسا يذهبون مذهبا ، فقال : أين يذهب هؤلاء ؟ قالوا : يأتون مسجدا صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه قال : إنما هلك من كان قبلكم بأشباه ذلك يتبعون آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعا ، من أدركته الصلاة في شيء من هذه المساجد التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليصل فيها وإلا فلا يتعمد لها .

قال : وفيما رويتم من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إتيان مسجد قباء ما دل على حضه أصحابه على مثل ذلك من إتيانهم إياه ، بل قد روي من إتيانهم إياه ، ولزومهم له ، وصلاتهم فيه .

[ ص: 398 ] ما قد حدثنا يونس ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني ابن جريج ، أن نافعا أخبره ، أن عبد الله بن عمر ، قال : كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء فيهم : أبو بكر وعمر ، وأبو سلمة ، وزيد ، وعامر بن ربيعة ، وذلك أنه كان أكثرهم قرآنا .

قال : ففي هذا ما يخالف ما رواه المعرور ، عن عمر لا سيما ، وفي هذا الحديث أن عمر ممن كان يصلي فيه مع من سواه ممن ذكر في حديث ابن جريج ، عن نافع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيه أيضا .

5709 - فذكر ما قد حدثنا يونس ، عن ابن وهب ، أخبرني هشام بن سعد ، عن نافع ، قال : سمعت عبد الله بن عمر ، يقول : قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى [ ص: 399 ] قباء ، فسمعت به الأنصار ، فجاؤوا يسلمون عليه ، فقلت لبلال أو صهيب : كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم وهو يصلي ؟ قال : يشير بيده .

5710 - وما قد حدثنا يونس ، ومحمد بن عبد الله ، قالا : حدثنا عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا عبد الله بن نافع ، عن هشام بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر : أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى قباء فصلى ، فسمعت به الأنصار ، فجاؤوا فسلموا عليه ، فأشار إليهم بيده باسط كفه . لم يقل يونس : [ ص: 400 ] باسط كفه .

5711 - وما قد حدثنا علي بن معبد ، حدثنا أبو نوح عبد الرحمن بن غزوان ، حدثنا هشام بن سعد ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء ليصلي ، فخرجنا معه ، فسمعت به الأنصار ، فجاؤوا يسلمون عليه . قال : قلت : يا بلال ، كيف كان يرد عليهم ؟ قال : كان يشير إليهم بيده .

قال : فدل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يصلي فيه ، وفي هذا اضطراب شديد مع ما قد رويتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله أيضا : خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ، وذكرتموه فيما تقدم من هذا الكتاب ، أفيجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك صلاته في بيته ، وخرج [ ص: 401 ] إلى مسجد قباء للصلاة فيه ، وتلك الصلاة تطوع ، فيترك الأفضل مع ترك تجشم المسافة ، ويمضي إلى ما هو دونه من تجشم المصير إليه مع بعد المسافة ، وهذا مما لا خفاء به .

وكان جوابنا له في ذلك : أنه لا اختلاف في شيء من هذه الآثار مما روي فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عن أحد من أصحابه المذكورين فيها ، وذلك أن حديث المعرور ، عن عمر إنما هو لقصدهم كان إلى مواضع لم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لفضل فيها على ما سواها ، وإنما أدركته الصلاة فصلى في الموضع الذي صلى فيه منها لا لفضل في ذلك الموضع على غيره ، فكره عمر أن يجعلوا له فضلا على غيره ، فيرجعون بذلك إلى مثل ما كان عليه من قبلهم من اتباع آثار أنبيائهم حتى اتخذوها كنائس وبيعا ، وكان مسجد قباء له فضيلة يؤتى من أجلها ، وهي أن الله تعالى أمر في غيره مما بني لما ذكر الذين بنوه أنهم بنوه له ليكون كمثله ، فكان من الله فيه ما أنزل في كتابه من إظهاره وما بنوه له من إرادتهم التفريق بين المؤمنين ، ومن تركه مسجد قباء ، وإقراره على ما كان عليه ، ولم يكن ذلك إلا لفضيلة فيه ، ورضى من الله تعالى لما بناه أهله من أجله ، ثم جهدهم على ذلك بما قد ذكره في كتابه من حمده إياهم بقوله : فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين .

فأما الصلاة فيه ، فإنه قد يحتمل أن يكون كان ذلك لما وجب عليه صلى الله عليه وسلم ألا يجلس فيه حتى تكون منه فيه الصلاة التي قد أمر الناس أن يفعلوها إذا دخلوا المساجد قبل أن يجلسوا فيها.

5712 - كما حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه ، عن [ ص: 402 ] عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن عمرو بن سليم الزرقي ، عن أبي قتادة السلمي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إذا دخل أحدكم المسجد ، فليركع ركعتين قبل أن يجلس .

5713 - وكما حدثنا يونس ، حدثنا سفيان ، عن عثمان بن أبي سليمان : أنه سمع عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن عمرو بن سليم الزرقي [ ص: 403 ] ، عن أبي قتادة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

5714 - وكما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن عمرو بن سليم - وكان امرءا ذا هيئة - أنه سمع أبا قتادة الأنصاري ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر مثله .

5715 - وكما حدثنا محمد بن إبراهيم بن يحيى بن حماد ، حدثنا أبو سلمة موسى بن إسماعيل ، حدثنا همام ، عن محمد بن عجلان [ ص: 404 ] ، وابن جريج ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن عمرو بن سليم ، عن أبي قتادة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله . قال : وزاد ابن جريج : ولا يجلس حتى يصلي .

5716 - حدثنا أبو أمية ، حدثنا خالد بن أبي يزيد ، حدثنا إسماعيل بن زكريا ، عن عمرو بن يحيى بن عمارة ، حدثني محمد بن يحيى بن حبان ، عن عمرو بن سليم الزرقي ، عن أبي قتادة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا أتى أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين .

5717 - وكما حدثنا محمد بن علي بن داود ، حدثنا محمد بن [ ص: 405 ] الصباح ، حدثنا إسماعيل بن زكريا ، عن سهيل ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن عمرو بن سليم ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله .

5718 - وكما حدثنا أبو أمية ، حدثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري ، أخبرنا إبراهيم بن يزيد بن قديد ، عن الأوزاعي ، عن يحيى [ ص: 406 ] ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا دخل أحدكم المسجد ، فلا يجلس حتى يركع ركعتين ، فإن الله تعالى جاعل له من ركعته في بيته خيرا .

[ ص: 407 ] فيكون ما صلاه رسول الله عليه السلام في مسجد قباء لدخوله إياه الدخول الذي أراد به الجلوس فيه ، فيصلي الصلاة التي صلى فيه كذلك لا لما سواه .

قال : ففي حديث أبي نوح الذي ذكرته عن علي بن معبد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأتي مسجد قباء ليصلي فيه ، فدل ذلك أنه قد كان يقصد للصلاة فيه .

فكان جوابنا له في ذلك : أن هذا الحديث لم نجده في حديث أحد ممن حدث به عن هشام بن سعد غير أبي نوح ، وعسى أن يكون ذلك وهما منه ، لأن الجماعة بالحفظ أولى من الواحد ، وقد يحتمل أن يكون ما في الحديث ليصلي فيه إن كان ثابتا من كلام بعض رواته ليس عن النبي صلى الله عليه وسلم على أنه حمل الأمر على أنه كان لا يأتيه ليجلس فيه إلا صلى فيه قبل أن يجلس .

فأما صلاته في بيته التطوع ، فما فضل من الصلاة في مسجد قباء لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فضلها على الصلاة في مسجده ، فقال للناس لما اجتمعوا إليه في شهر رمضان ليصلي بهم فيه : أيها الناس صلوا في بيوتكم ، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة .

ومسجده صلى الله عليه وسلم في الفضل فوق مسجد قباء ، فإذا كانت صلاة التطوع [ ص: 408 ] في البيوت أفضل من الصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم كانت أحرى أن تكون في البيوت أفضل منها في مسجد قباء ، فقد بان بحمد الله تعالى أن لا تضاد في شيء من هذه الآثار التي رويناها في هذا الباب ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية