الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وفاة خديجة وأبي طالب

روينا عن الدولابي ، حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي ، حدثنا زهير بن العلاء ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، قال : توفيت خديجة بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين ، وهي أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 227 ] قال : وحدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثني يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق قال : ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب ماتا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبتان ، هلاك خديجة وأبي طالب ، وكانت خديجة وزيرة صدق على الإسلام ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكن إليها . قال : وقال زياد البكائي ، عن ابن إسحاق : إن خديجة وأبا طالب هلكا في عام واحد ، وكان هلاكهما بعد عشر سنين مضين من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك قبل مهاجره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين .

وذكر ابن قتيبة أن خديجة توفيت بعد أبي طالب بثلاثة أيام . وذكر البيهقي نحوه ، وعن الواقدي : توفيت خديجة قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة . وقيل غير ذلك .

فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبي طالب ، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش فنثر على رأسه ترابا ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيته والتراب على رأسه ، فقامت إليه إحدى بناته فجعلت تغسل عنه التراب وهي تبكي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا تبكي يا بنية فإن الله مانع أباك ، ويقول بين ذلك : ما نالت مني قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب . قال : ولما اشتكى أبو طالب وبلغ قريش ثقله ، قال بعضهم لبعض : إن حمزة ، وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها ، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا ، فإنا والله ما نأمن أن يبتزونا أمرنا ، فمشوا إلى أبي طالب وكلموه وهم أشراف قومه : عتبة ، وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، وأبو سفيان بن حرب ، في [ ص: 228 ] رجال من أشرافهم ، فقالوا : يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك ، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك ، فادعه وخذ له منا وخذ لنا منه ليكف عنا ونكف عنه ، وليدعنا وديننا ، وندعه ودينه ، فبعث إليه أبو طالب فجاءه ، فقال : يا ابن أخي هؤلاء أشراف قومك وقد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . كلمة واحدة تعطونيها وتملكون بها العرب ، وتدين لكم بها العجم . فقال أبو جهل : نعم وأبيك ، وعشر كلمات . قال : تقولون لا إله إلا الله ، وتخلعون ما تعبدون من دونه . قال : فصفقوا بأيديهم ثم قالوا : يا محمد ، أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا ، إن أمرك لعجب . ثم قال بعضهم لبعض : والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون ، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه ، ثم تفرقوا ، فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شحطا . فلما قالها طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، فجعل يقول له : أي عم ! فأنت فقلها ، أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة . فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال له : يا ابن أخي والله لولا مخافة السبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرك بها ، فلما تقارب من أبي طالب الموت نظر العباس إليه يحرك شفتيه ، فأصغى إليه بأذنه ، فقال : يا ابن أخي ! والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته بقولها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أسمع . كذا في رواية ابن إسحاق أنه أسلم عند الموت .

وقد روي أن عبد الله بن عبد المطلب وآمنة بنت وهب أبوي النبي صلى الله عليه وسلم أسلما أيضا وإن الله أحياهما له فآمنا به . وروي ذلك أيضا في حق جده عبد المطلب ، وهي روايات لا معول عليها ، والصحيح من ذلك ما رويناه من طريق مسلم : حدثني حرملة بن يحيى التجيبي ، أخبرنا عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، قال : لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد [ ص: 229 ] عنده أبا جهل ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا عم ! قل لا إله إلا الله ، كلمة أشهد لك بها عند الله" . فقال أبو جهل ، وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب ! أترغب عن ملة عبد المطلب ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ، ويعيدان له تلك المقالة ، حتى قال أبو طالب - آخر ما كلمهم - هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك" فأنزل الله عز وجل : ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) وأنزل الله في أبي طالب ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ) . ورواه مسلم من حديث أبي هريرة أيضا وفيه : لولا أن تعيرني قريش ، يقولون : إنما حمله على ذلك الخرع لأقررت بها عينك .

وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده عمه أبو طالب ، فقال : "لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة ، فيجعل في ضحضاح من النار" .

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أهون أهل النار في النار عذابا أبو طالب ، وهو منتعل بنعلين من نار يغلي منهما دماغه" .

وأخبرنا عبد الرحيم المزي . بقراءة والدي عليه ، أخبركم أبو علي حنبل بن عبد الله بن الفرج ، أخبرنا أبو القاسم بن الحصين ، أخبرنا أبو علي بن المذهب ، أخبرنا أبو بكر القطيعي ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا [ ص: 230 ] أبي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت ناجية بن كعب يحدث عن علي ؛ أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا طالب مات . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "اذهب فواره" فقال : إنه مات مشركا . قال : "اذهب فواره" . فلما واريته رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي : "اغتسل" .

وأخبرنا أبو الفضل بن الموصلي ، قال : أخبرنا أبو علي بن سعادة الرصافي ، أخبرنا هبة الله بن محمد الشيباني ، أخبرنا الحسن بن علي التميمي ، أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، أخبرنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن وكيع بن عدس ، عن أبي رزين عمه ، قال : قلت : يا رسول الله ! أين أمي ؟ قال : "أمك في النار" قال : قلت : فأين من مضى من أهلك ؟ قال : "أما ترضى أن تكون أمك مع أمي ؟ !" . قال عبد الله : قال أبي : الصواب حدس .

وذكر بعض أهل العلم في الجمع بين هذه الروايات ما حاصله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل راقيا في المقامات السنية ، صاعدا في الدرجات العلية إلى أن قبض الله روحه الطاهرة إليه ، وأزلفه بما خصه به لديه من الكرامة حين القدوم عليه ، فمن الجائز أن تكون هذه درجة حصلت له صلى الله عليه وسلم بعد أن لم تكن ، وأن يكون الإحياء والإيمان متأخرا عن تلك الأحاديث فلا تعارض .

وقال السهيلي : شهادة العباس ، لأبي طالب لو أداها بعد ما أسلم كانت مقبولة ؛ لأن العدل إذا قال سمعت وقال من هو أعدل منه لم أسمع ، أخذ بقول من أثبت السماع ، ولكن العباس شهد بذلك قبل أن يسلم .

قلت : قد أسلم العباس بعد ذلك ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال أبي طالب فيما أخبرنا عبد الرحيم بن يوسف ، بقراءة أبي عليه ، وقرأت على أبي الهيجاء غازي بن أبي الفضل ، قال : أخبرنا أبو حفص بن طبرزذ ، قال : أخبرنا ابن الحصين ، أخبرنا أبو طالب [ ص: 231 ] بن غيلان ، أخبرنا أبو بكر الشافعي ، حدثنا بشر بن موسى ، حدثنا الحميدي ، حدثنا سفيان ، حدثنا عبد الملك بن عمير ، قال : سمعت عبد الله بن الحارث بن نوفل ، قال : سمعت العباس يقول : قلت يا رسول الله ، إن أبا طالب كان يحفظك وينصرك ، فهل نفعه ذلك ؟ قال : "نعم ، وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح" . صحيح الإسناد مشهور ، متفق عليه من حديث العباس في الصحيحين .

ولو كانت هذه الشهادة عنده لأداها بعد إسلامه ، وعلم حال أبي طالب ولم يسأل ، والمعتبر حالة الأداء دون التحمل .

وفيما ذكره السهيلي ؛ أن الحارث بن عبد العزى أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرضاعة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، فأسلم وحسن إسلامه ، في خبر ذكره من طريق يونس بن بكير ، عن ابن إسحاق ، عن أبيه ، عن رجال من بني سعد بن بكر .

التالي السابق


الخدمات العلمية