الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب تحريم ما أهل به لغير الله قال الله تعالى : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ولا خلاف بين المسلمين أن المراد به الذبيحة إذا أهل بها لغير الله عند الذبح ، فمن الناس من يزعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان الذين كانوا يذبحون لأوثانهم ؛ كقوله تعالى : وما ذبح على النصب وأجازوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح ، وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب ، وقالوا : " إن الله تعالى قد أباح أكل ذبائحهم مع علمه بأنهم يهلون باسم المسيح على ذبائحهم " .

وهو مذهب الأوزاعي والليث بن سعد أيضا . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والشافعي : " لا تؤكل [ ص: 155 ] ذبائحهم إذا سموا عليها باسم المسيح " .

وظاهر قوله تعالى : وما أهل به لغير الله يوجب تحريمها إذا سمي عليها باسم غير الله ؛ لأن الإهلال به لغير الله هو إظهار غير اسم الله ، ولم تفرق الآية بين تسمية المسيح وبين تسمية غيره بعد أن يكون الإهلال به لغير الله . وقوله في آية أخرى : وما ذبح على النصب وعادة العرب في الذبائح للأوثان غير مانع اعتبار عموم الآية فيما اقتضاه من تحريم ما سمي عليه غير الله تعالى .

وقد روى عطاء بن السائب عن زاذان وميسرة ، أن عليا عليه السلام قال : " إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فلا تأكلوا ، وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله قد أحل ذبائحهم " وهو يعلم ما يقولون

وأما ما احتج به القائلون بإباحة ذلك لإباحة الله طعام أهل الكتاب مع علمه بما يقولون ، فليس فيه دلالة على ما ذكروا ؛ لأن إباحة طعام أهل الكتاب معقودة بشريطة أن لا يهلوا لغير الله ؛ إذ كان الواجب علينا استعمال الآيتين بمجموعهما ، فكأنه قال : وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ما لم يهلوا به لغير الله .

فإن قال قائل : إن النصراني إذا سمى الله فإنما يريد به المسيح عليه السلام فإذا كان إرادته كذلك ولم تمنع صحة ذبيحته وهو مع ذلك مهل به لغير الله ، كذلك ينبغي أن يكون حكمه إذا أظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح .

قيل له : لا يجب ذلك ؛ لأن الله تعالى إنما كلفنا حكم الظاهر ؛ لأن الإهلال هو إظهار القول ، فإذا أظهر اسم غير الله لم تحل ذبيحته لقوله : وما أهل به لغير الله وإذا أظهر اسم الله فغير جائز لنا حمله على اسم المسيح عنده ؛ لأن حكم الأسماء أن تكون محمولة على حقائقها ولا تحمل على ما لا يقع الاسم عليه عندنا ولا يستحقه .

ومع ذلك فليس يمتنع أن تكون العبادة علينا في اعتبار إظهار الاسم دون الضمير ، ألا ترى أن من أظهر القول بالتوحيد وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم كان حكمه حكم المسلمين مع جواز اعتقاده للتشبيه المضاد للتوحيد ؟ وكذلك قال صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وقد أعلمه الله أن في القوم منافقين يعتقدون غير ما يظهرون ، ولم يجرهم مع ذلك مجرى سائر المشركين بل حكم لهم فيما يعاملون به من أحكام الدنيا بحكم سائر المسلمين على ما ظهر من أمورهم دون ما بطن من ضمائرهم .

وكذلك جائز أن تكون صحة ذكاة النصراني متعلقة بإظهار اسم الله تعالى ، وأنه متى أظهر اسم المسيح لم تصح ذكاته ، كسائر المشركين إذا أظهروا على ذبائحهم [ ص: 156 ] أسماء أوثانهم والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية