الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 492 ] ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار

                                                          * * *

                                                          ذكر الله وحدانيته سبحانه وتعالى ، وأنه لا إله إلا هو ، وذكر الأدلة على الوحدانية ، وأنه حافظ الإنسانية ومنميها ، والأحياء جميعا ، ومع هذه الأدلة الواضحة ومع ما غمر الإنسان من نعم ووجود وكيان قائم ، مع ذلك وجد من يجعل للخالق المدبر أندادا في العبادة ; ولذا قال : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا الأنداد جمع ند وهو النظير المقابل المماثل ، وأنهم يتخذون الأصنام أو الأشجار أندادا مماثلة لله تعالى يتعبدون الأصنام ، ولا يذكرون الله إلا قليلا ، أو الأشخاص فيطيعونهم كأن أوامرهم هي من الله تعالى ، وإن ذلك كله مع قيام الأدلة التي لا ريب فيها مما نيط بهم في هذا الكون الذي هو في ذاته دليل الوحدانية ، ونعم من آلائه ، سبحانه وتعالى فالإنكار ابتداء هو في اتخاذهم هؤلاء الأنداد أيا كانوا ، وقوله تعالى : ومن الناس من يتخذ من دون الله فيه إشارتان بيانيتان : الإشارة الأولى - التعبير ومن الناس فمن للبعضية ، أي بعض الناس ، وفي ذلك تصغير لشأنهم وتهوين لأمرهم سواء أكانوا عددا قليلا ، أم كانوا عددا كثيرا [ ص: 493 ] فهم مهينون في تفكيرهم ، إذ هم رفضوا الدليل المشتق من وجودهم ، وما يحيط بهم ، فضلوا ضلالا بعيدا ، والتعبير عنهم بذلك ومن الناس إشارة إلى أنهم ليس لهم من وصف إلا أن يقال إنهم من الناس ، فليس لهم وصف علم ولا إيمان ، ولا شيء من المكارم التي تعلي الإنسان وتسير به في مدارج الرقي ، كما تقول عن رجل محتقرا : هذا الآدمي ، أي ليس له من الصفات إلا أنه آدمي .

                                                          الإشارة الثانية - أن الله تعالى قال : يتخذ من دون الله أندادا فيه إشارة إلى أنهم - أي الأنداد - ليس لهم وجود ذاتي بهذا الاعتبار ، إنما هم الذين جعلوهم كذلك جعلا ، فما كان لهم ذلك إلا بزعمهم الباطل وحدهم ، وهم يحسبون أنهم بهذا الاتخاذ يحسنون صنعا .

                                                          وإنهم لا يكتفون بذلك الاتخاذ الباطل ، بل يعبدونهم ويحبونهم كحب الله تعالى بأن يجعلوهم نظراء الله تعالى في المحبة والخضوع وطلب الرضا .

                                                          وقوله تعالى : كحب الله قد يكون معناه أنهم يسوونهم بالله تعالى في العبودية ، والطاعة والرضا بما يعتبرونه مرضيا لهم مع أنهم يرون أنهم لا ينفعون ولا يضرون ، وإذا أنزلت بهم شديدة لا يلجأون إلا لله ، ولا يطلبون كشف الضر إلا منه كما تلونا من كتاب الله تعالى ما يحكيه عنهم ، فهم يفرقون بين معبوداتهم ، وبين الله في شدائدهم ، ولا يفرقون في رخائهم ، وقد علمت أن وثنيي العرب ما كانوا ينكرون وجود الله وأنه المنشئ المكون للوجود ، ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ويقولون في أوثانهم ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله .

                                                          وهذا التخريج هو الأقرب إلى الخاطر ، وهناك تخريج آخر ، يقول إن معنى قوله تعالى كحب الله أنهم يحبونهم كحب المؤمنين لله تعالى ، فهم ينزلون أندادهم منزلة الله تعالى عند أهل الإيمان فيفردونها بالعبادة كما يفرد المؤمنون الله تعالى بالعبادة وحده .

                                                          [ ص: 494 ] والتخريج الأول أظهر وأقرب إلى الخاطر ، وهو المتبادر ، ولقد قال بعد ذلك : والذين آمنوا أشد حبا لله أي أن المؤمنين لوصفهم بالإيمان ولإذعانهم بالحق ولأنهم يعبدون من يملك النفع والضر ، وأنه خالق الكون ; ولأن حبهم مقصور على الذات العلية ، فإنهم بذلك أشد حبا لله ، ومظهر حب الله تعالى الإخلاص له ، وتسليم الوجه والطاعة له ، والخضوع له ، ولما يأتي من عنده ، فحب الله طاعته ، وأن تمتلئ النفس بذكره ، وأن يكون حبه كله لله تعالى لا يحب شيئا في الوجود إلا لله ، كما قال تعالى : يحبهم ويحبونه ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله " فالله في قلبه وفي عمله ، وقوله واختلاطه بالناس ، وهو معه دائما .

                                                          وإن الله تعالى قد أعد العقاب الشديد لأولئك الذين اتخذوا الأنداد ، وقدسوا الحجارة ، وعبدوا الطاغوت ، وقد قال تعالى في وصف عقابهم الهائل : ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب والذين ظلموا هم الذين اتخذوا الأنداد ، وأظهرهم ، ولم يعبر عنهم بالضمير أو الإشارة ، لبيان أنهم ظالمون ظلموا أنفسهم وظلموا الحقيقة ، وضلوا وأضلوا ، وإن ما ينالهم من جزاء هو بسبب ظلمهم ، وقوله تعالى : أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب مفعول يرى ، ويصح أن تكون يرى الأولى علمية ، ويكون المؤدى أن ذلك يوم القيامة وظلمهم كان في الدنيا ، ويكون سياق الكلام هكذا : لو يرى الذين ظلموا أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب ، لو يرى الذين ظلموا ذلك ، وهم يرون العذاب الواقع فعلا ، والمعنى يرون العذاب رأي العين بالعين البصرية يوم القيامة ويعلمون أن القوة لله جميعا ، وأن الله شديد العقاب .

                                                          فهم يرون العذاب فعلا رأي العين ، وقد علموا في ذلك الوقت أن الله سبحانه وتعالى له القوة جميعا ، فلا قوة لأحد أن يزحزحهم من النار التي هم فيها ، ويعلمون أن الله شديد العقاب .

                                                          [ ص: 495 ] وهنا إشارتان بيانيتان لا بد من ذكرهما :

                                                          الأولى - أنه سبحانه يقرر أن الذين ظلموا لو علموا قوة الله وأنه شديد العقاب ، إذ يرون العذاب وهم يرون العذاب برؤية العين البصرية ، وإذ هنا للزمن الماضي وذكرت هنا لبيان تحقق الرؤية كما يذكر الماضي في موضع المستقبل لتأكد الوقوع .

                                                          الثانية - أن قوله تعالى : ولو يرى الذين ظلموا إلى آخره ، هذا فعل شرط ، فأين الجواب ؟ ونقول : إن الجواب محذوف ومقدر بما يناسب المقام ، وهو الهوان الشديد ، ويكون المعنى لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لرأوا هولا شديدا لا يكتنه كنهه ، ولا تدرك حقيقته إلا عند رؤيته .

                                                          وإن العلم بقوة الله تعالى ، وشدة عقابه ، وأنهم قد رأوا بوادره ، فيه تهديد شديد ، وعذاب شديد ، ويلاحظ أن الله تعالى قال : شديد العقاب ، ولم يقل شديد العذاب كما قال في موضع آخر ; لأنه ذكر الجريمة ، وهو اتخاذهم الأنداد ، فالعذاب الذي يرونه هو عقاب ، والعقاب دائما من جنس الفعل ، وليس عذابا لذات العذاب بل هو جزاء وفاق لما قدموا .

                                                          وإنهم في هذا اليوم لا يكون لهم خل ولا شفيع ، وإن الذين يتبرءون منهم ، لأنهم جميعا في عذاب أليم ، وكل يفكر في هول ما نزل به ، ولذا قال تعالى : إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا تبرأ المتبوع من التابع وتبرأ الرئيس المتغطرس من المرءوس الذليل الضعيف ، وهذا كما قال الله تعالى في سورة إبراهيم وبرزوا لله جميعا فقال الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم

                                                          [ ص: 496 ] وقوله : إذ تبرأ الذين اتبعوا " إذ " للدلالة على الزمن الماضي ، وهي هنا للمستقبل فيكون استحضار الحال المستقبل ، أو يقال إنها لزمن القول ، وهو عن زمن في الماضي وفيما بعد إخبار عن المستقبل ، يتبرأ المتبوعون من التابعين الذين يقولون : هؤلاء الذين أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار . فيتبرأ المتبوعون منهم ويقال : لكل ضعف ولكن لا تعلمون . فهم إذ يرون العذاب لا يفكر أحد منهم في تضليله للآخر ، وإن ذلك التبرؤ وهم قد رأوا العذاب . لقد ضل التابع وضل المتبوع وقد كان مآل الفريقين النار .

                                                          وقد كانت بينهم مودة موصولة جعلت بعضهم يتبع الآخر على الشرك والضلالة ، وكانت أحيانا تكون الصلة نسبية ، أو عصبية جاهلية ، وقد بين سبحانه أن تلك الصلات كلها تتقطع ، ولذا قال عز من قائل : وتقطعت بهم الأسباب الأسباب جمع سبب وهو في الأصل الحبل الذي يشد به الشيء أو يصل بين أمرين برباط بينهما والمراد هنا الصلات التي كانت تربطهم من عصبية جاهلية أو رحم أو رياسة أو من أي تبعية كانت . هذه الصلات تقطعت ، وتقطعت مبالغة في القطع ، أي أنها قطعت من كل ناحية بحيث لا يمكن وصلها بحال من الأحوال .

                                                          وإن أولئك الذين أضلهم كبراؤهم ، وأخذوا عليهم طريق الهداية ينالهم الألم المرير ، لأنه كان - بين طريق الحق المستقيم ومخاوف الشيطان على الطريق - النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويهدي ، وعلى رأس السبل الأخرى شياطين الإنس يقودونهم إلى الضلال ، فسلكوا طريقهم ، فلما كان عذاب يوم القيامة يتخلى عنهم الذين قادوهم إلى مهاوي الشر ، وكانوا معهم في النيران وتبرءوا منهم ، فتمنى التابعون أن يعودوا إلى الدنيا ، ليتبرءوا منهم كما تبرءوا هم منهم ، ولذا قال الله تعالى : وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا " الكرة " : الرجعة مرة أخرى إلى ما كانوا في الدنيا ، و " لو " للتمني ، ومعنى الجملة لو ثبت أن لنا كرة نتمناها فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا وإن تفسير هذا التمني أنهم في الآخرة ، أخلوا بهم وتبرءوا منهم فتمنيهم العود إلى الدنيا ليتبرءوا من دعوتهم إلى الباطل وينفروا منهم ويتبعوا [ ص: 497 ] الصالحات . فالمتبعون يتبرءون منهم في الآخرة ، ويتمنون أن يعودوا إلى الدنيا ، ليعلنوا التبرؤ منهم ومنافرتهم بالبعد عنهم كما خذلوهم في هذه الشدة ، وقد بين سبحانه أن تمنياتهم لو حققت ما تبرءوا وما عملوا فقال تعالى : ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإن غرور الحياة لا يمكنهم من أن يعتبروا بل ستدفعهم أهواؤهم إلى مثل ما فعلوا أولا فهم في ريبهم يترددون ، وإن ذلك التصوير الذي صوره الله تعالى لحالهم يوم القيامة هو ليريهم أعمالهم حسرات عليهم ، ولذلك قال تعالى : كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم

                                                          أي كان هذا منهم كذلك ليكون ذلك عقابا لهم فوق عقابهم بعذاب النار ، وذلك العقاب بأن يريهم أعمالهم التي مضت على أنها حسرات ، توالت عليهم حسرة بعد حسرة ، فكان جمعها للدلالة على كثرتها وأنها متوالية حسرة تخلفها حسرة ، وإذ أعمالهم كثيرة ، فحسراتهم كثيرة ، وحسرات مفعول ثان ; فالله تعالى يريهم تلك الأعمال حسرات تكبو لها النفوس بعد أن كانت في الدنيا مسرة يفرحون بها ويطربون بسوء ما يفعلون .

                                                          ومع هذه التمنيات التي تجعل نفوسهم متلهفة على العودة إن كان ذلك ممكنا ، والحسرات المتتابعة فهم في النار خالدون فيها ، ولذا قال تعالى : وما هم بخارجين من النار فنفى الله تعالى نفيا باتا قاطعا خروجهم من النار ، وأكد ذلك النفي باستغراق النفي الثابت بالباء وبضمير الفصل وبالجملة الاسمية .

                                                          * * *

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية