الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا

التزمت مريم عليها السلام ما أمرت به من ترك الكلام، ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت بـ إني نذرت للرحمن صوما ، وإنما ورد أنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال: إن أمرها في "فقولي" إنما أريد به الإشارة، ويروى أنهم - لما أشارت إلى الطفل - قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها، ثم قالوا لها - على جهة التقرير - كيف نكلم من كان في المهد صبيا ؟.

و "كان" هنا ليس يراد بها المضي; لأن كل واحد قد كان في المهد صبيا، وإنما هي في معنى: هو "الآن"، ويحتمل أن تكون الناقصة، والأظهر أنها التامة، وقد قال أبو عبيدة : "كان" هنا لغو. وقال الزجاج والفراء : "من" شرطية في قوله تبارك وتعالى: من كان .

[ ص: 29 ] قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

ونظير "كان" هذه قول رؤبة :


والرأس قد كان له قتير

و "صبيا" إما خبر "كان" على تجوز وتخيل في كونها ناقصة، وإما حال [إذا قدرت زائدة أو تامة] لاستقرار المقدر في الكلام.

وروي أن المهد يراد به حجر أمه، قال لهم عيسى من مرقده: "إني عبد الله" الآية، وروي أنه قام متكئا على يساره، وأشار إليهم بسبابته اليمنى. و "الكتاب": التوراة، ويحتمل التوراة والإنجيل، و "آتاني" معناه: قضى بذلك وأنفذه في سابق حكمه، وهذا نحو قوله عز وجل: أتى أمر الله وغير هذا، وأمال الكسائي "آتاني" و "أوصاني"، والباقون لا يميلون، قال أبو علي : الإمالة في "آتاني" أحسن لا في "أوصاني". و "مباركا" قال مجاهد : معناه: نفاعا، وقال سفيان الثوري : معناه: معلم خير، [ ص: 30 ] وقيل: آمرا بمعروف ناهيا عن منكر، وقال رجل لبعض العلماء: ما الذي أعلن من علمي؟ قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر; فإنه دين الله الذي بعث به أنبياءه، وأسند النقاش عن الضحاك أنه قال: "مباركا" معناه: قضاء للحوائج.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وقوله تعالى: "مباركا" يعم هذه الوجوه وغيرها.

و ‎"‎الصلاة والزكاة" قيل: هما المشروعتان في البدن والمال، وقيل: زكاة الرؤوس في الفطر، وقيل: الصلاة الدعاء، والزكاة التطهير من كل عيب ونقص ومعصية. وقرأ "دمت" بضم الدال عاصم وجماعة، وقرأ "دمت" بكسرها أهل المدينة ، وابن كثير، وأبو عمرو ، وجماعة.

وقرأ الجمهور "وبرا" بفتح الباء - وهو الكثير البر - ونصبه على قوله: "مباركا"، وقرأ أبو نهيك، وأبو مجلز ، وجماعة "برا" بكسر الباء، فقال بعضهم: نصبه على العطف على قوله: "مباركا"، فكأنه قال: ذا بر، فاتصف بالمصدر كعدل ونحوه، وقال بعضهم: نصبه بقوله: "وأوصاني"، أي: وأوصاني برا بوالدتي، حذف الجار، يريد: وأوصاني ببر والدتي، وحكى الزهراوي هذه القراءة "وبر" بالخفض عطفا على "الزكاة"، وقوله: "بوالدتي" بيان لأنه لا والد له، وبهذا القول برأها قومها.

و "الجبار": المتعظم، وهي خلق مقرونة بالشقاء لأنها مناقضة لجميع الناس فلا يلقى صاحبها من أحد إلا مكروها، وكان عيسى صلوات الله عليه في غاية التواضع، يأكل الشجر، ويلبس الشعر، ويجلس على التراب، ويأوي حيث جنه الليل لا مسكن له، قال قتادة : وكان يقول: سلوني فإن لين القلب صغير في نفسي، وقد تقدم ذكر تسليمه على نفسه وإدلاله في ذلك، وذكر المواطن التي خصها لأنها أوقات حاجة الإنسان إلى رحمة الله.

[ ص: 31 ] وقال مالك بن أنس رضي الله عنه في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر، أخبر عيسى بما قضي من أمره وبما هو كائن إلى أن يموت، وفي قصص هذه الآية عن ابن زيد وغيره أنهم لما سمعوا كلام عيسى وهو في المهد أذعنوا وقالوا: إن هذا لأمر عظيم، وروي أن عيسى عليه السلام إنما تكلم في طفولته بهذه الآية ثم عاد إلى حالة الأطفال حتى نشأ على عادة البشر، وقالت فرقة: إن عيسى كان أوتي الكتاب وهو في ذلك السن، وكان يصوم ويصلي.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله :

وهذا في غاية الضعف، مصرح بجهالة قائله.

التالي السابق


الخدمات العلمية