الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        ولقد مننا عليك مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى واصطنعتك لنفسي

                                                                                                                                                                                                                                        (37 - 39) لما ذكر منته على عبده ورسوله، موسى بن عمران - في الدين، والوحي، والرسالة، وإجابة سؤاله - ذكر نعمته عليه وقت التربية والتنقلات في أطواره، فقال: ولقد مننا عليك مرة أخرى حيث ألهمنا أمك أن تقذفك في التابوت وقت الرضاع؛ خوفا من فرعون؛ لأنه أمر بذبح أبناء بني إسرائيل، فأخفته أمه، وخافت عليه خوفا شديدا فقذفته في التابوت، ثم قذفته في اليم؛ أي: شط نيل مصر، فأمر الله اليم أن يلقيه في الساحل، وقيض أن يأخذه أعدى الأعداء لله ولموسى، ويتربى في أولاده، ويكون قرة عين لمن رآه، ولهذا قال: وألقيت عليك محبة مني فكل من رآه أحبه ولتصنع على عيني ؛ أي: ولتتربى على نظري وفي حفظي وكلاءتي، وأي نظر وكفالة أجل وأكمل من ولاية البر الرحيم، القادر على إيصال مصالح عبده، ودفع المضار عنه؟! فلا ينتقل من حالة إلى حالة إلا والله تعالى هو الذي دبر ذلك لمصلحة موسى. (40) ومن حسن تدبيره أن موسى لما وقع في يد عدوه، قلقت أمه قلقا شديدا، وأصبح فؤادها فارغا، وكادت تخبر به، لولا أن الله ثبتها وربط على قلبها، ففي هذه الحالة حرم الله على موسى المراضع، فلا يقبل ثدي امرأة قط؛ ليكون مآله إلى أمه فترضعه، ويكون عندها، مطمئنة، ساكنة، قريرة العين، فجعلوا يعرضون عليه المراضع، فلا يقبل ثديا.

                                                                                                                                                                                                                                        فجاءت أخت موسى، فقالت لهم: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون .

                                                                                                                                                                                                                                        فرجعناك إلى أمك كي [ ص: 1026 ] تقر عينها ولا تحزن وقتلت نفسا وهو القبطي، لما دخل المدينة وقت غفلة من أهلها، وجد رجلين يقتتلان: واحد من شيعة موسى، والآخر من عدوه قبطي فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه فدعا الله وسأله المغفرة، فغفر له، ثم فر هاربا لما سمع أن الملأ طلبوه، يريدون قتله.

                                                                                                                                                                                                                                        فنجيناك من الغم : من عقوبة الذنب، ومن القتل، وفتناك فتونا ؛ أي: اختبرناك، وبلوناك، فوجدناك مستقيما في أحوالك، أو نقلناك في أحوالك وأطوارك حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، فلبثت سنين في أهل مدين حين فر هاربا من فرعون وملئه، حين أرادوا قتله، فتوجه إلى مدين، ووصل إليها، وتزوج هناك، ومكث عشر سنين، أو ثمان سنين، ثم جئت على قدر يا موسى ؛ أي: جئت مجيئا قد مضى به القدر، وعلمه الله وأراده في هذا الوقت وهذا الزمان وهذا المكان، ليس مجيئك اتفاقا من غير قصد ولا تدبير منا، وهذا يدل على كمال اعتناء الله بكليمه موسى - عليه السلام -. (41) ولهذا قال: واصطنعتك لنفسي ؛ أي: أجريت عليك صنائعي ونعمي، وحسن عوائدي، وتربيتي؛ لتكون لنفسي حبيبا مختصا، وتبلغ في ذلك مبلغا لا يناله أحد من الخلق، إلا النادر منهم. وإذا كان الحبيب إذا أراد اصطناع حبيبه من المخلوقين - وأراد أن يبلغ من الكمال المطلوب له ما يبلغ - يبذل غاية جهده، ويسعى نهاية ما يمكنه في إيصاله لذلك، فما ظنك بصنائع الرب القادر الكريم، وما تحسبه يفعل بمن أراده لنفسه، واصطفاه من خلقه؟

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية