الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      القسم السادس : أن يقع بعد خروج الوقت قبل فعله : مقتضى استدلال ابن الحاجب أنه يمتنع بالاتفاق ، ووجه بأن التكليف بذلك الفعل المأمور بعد مضي وقته ينتفي لانتفاء شرطه ، وهو الوقت ، وإذا انتفى فلا يمكن رفعه لامتناع رفع المعدوم ، لكن صرح الآمدي في الإحكام بالجواز ، وأنه لا خلاف فيه . قيل : ولا يتأتى الأمر إذا صرح بوجوب القضاء ، أو قلنا : الأمر بالأدلة يستلزمه ، والصواب هذه الطريقة ، فإن أبا الحسين البصري من المعتزلة قطع به ، فقال في " المعتمد " : نسخ الشيء قبل فعله ضربان : نسخ له قبل وقته ، وهو غير جائز عند شيوخنا المتكلمين ، وذهب بعض الفقهاء إلى جوازه ، ونسخ له بعد مضي وقته ، وهو جائز ، لأن مثل الفعل يجوز أن يصير في مستقبل الأوقات مفسدة . قال : ولا فرق في جواز ذلك في العقل بين أن يعصي المكلف أو يطيع . ا هـ .

                                                      فهذا تصريح بأن خلاف المعتزلة لا يجيء في هذه الصورة ، بل هي [ ص: 233 ] محل وفاق بيننا وبينهم . لكن القاضي في " التقريب " صرح بجريان خلافهم في هذه المسألة ، فقال : لا يستحيل عندنا أن ينسخ الفعل قبل وقوعه ، وبعد مضي وقته الذي وقته به ، لا على أن يقال للمكلف : لا تفعله في الوقت الماضي الذي كان قد وقت به لاستحالته ، ولكن يجوز النسخ له والنهي عنه قبل فعله ، ومع فعله ، وبعد مضي وقته ، بأن تعاد القدرة على فعله أو على تركه في المستقبل ، لأن ذلك يصح ، ثم يؤمر المكلف بأن يفعله مرة ثانية فيما بعد إذا عرفه بعينه ، ثم يقال له : قبل دخول وقته الذي وقت له ثانيا : لا تفعله فقد نهيناك عنه هذا جائز غير ممتنع ، ويكون نسخا للشيء قبل وقته ، وقبل إيقاعه ، ومنع إيقاعه في وقته الأول . قال : وهذا لا يصح إلا مع القول بجواز إعادة أفعال العبادات ، والمعتزلة ينكرونه ، وعلى إعادة الباقي من أفعال العباد وغير الباقي ، فلذلك أحالوا نسخ الشيء قبل تقضي وقته ، إما لاختصاصه بالزمان ، أو لاستحالة الإعادة عليه ، وإن كان باقيا . ومن وافقهم من الفقهاء على مسألة النسخ فلم يعرف ما أرادوا من ذلك ، فليحذر الفقيه السليم من بدعتهم .

                                                      تنبيهات

                                                      الأول : أن القاضي أبا الطيب الطبري ترجم المسألة بالنسخ قبل وقت الفعل ، ثم قال : وقال بعض العلماء بالأصول : إنما قلنا : نسخ الحكم قبل وقت الفعل ، ولم نقل : قبل فعله ، لأن المخالف يقول : يجوز قبل فعله ، وهو نسخ الفعل الثاني والثالث وما بعده . قال القاضي : والصحيح أن النسخ إذا ورد قبل وقت الفعل بينا أن المراد به إيجاب مقدمات الفعل ، وكل النسخ عندنا هكذا ، لأنه تخصيص للزمان ، وبيان لما يراد باللفظ ، كالتخصيص في الأعيان . ولا نقول : إن الله نسخ ما أمر به ، وأوجب علينا فعله ، وأراد إيجابه ، لاستلزامه البداء ، وهو محال . ا هـ . [ ص: 234 ] وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : جوز الجمهور النسخ قبل الفعل ، وجعلوا الحقيقة إذا قال لهم : صلوا غدا ، واقتلوا زيدا ، ثم منعهم منه قبل دخول الوقت ، إنه إنما أمرهم به على وصف إن وجد سقط الأمر كأن قال : صلوا غدا ، واقتلوا زيدا إن لم تموتوا .

                                                      الثاني : قال ابن أبي هريرة ، والأستاذ أبو إسحاق ، والخفاف في " الخصال " : كل نسخ فإنما يكون قبل الفعل ، لأن ما مضى يستحيل لحوق النسخ له ، لأن النسخ رفع الحكم في المستقبل من الزمان ، فلا معنى لقول من أبطل النسخ قبل الفعل . ولهذا قال إمام الحرمين : ترجمة المسألة بالنسخ قبل الفعل مختلة ، يعني لأنها تفهم صحة النسخ بعد الفعل ، وهو غير صحيح ، ولا نسخ أبدا إلا قبل الفعل ، سواء قلنا : إنه رفع أو بيان ، إذ لا ينعطف النسخ على سابق ، وإنما المراد به ، هل يجوز نسخ الفعل قبل دخول وقته ، أو قبل أن يمضي من وقت الأمر به ما يسعه ؟ فأهل الحق على جوازه ، والمعتزلة على منعه ، ثم احتج بقصة الخليل عليه السلام ، فإنه نسخ الأمر قبل وقوعه ، وهذا الدليل لا يطابق المدعى بظاهره .

                                                      وصور الغزالي المسألة في النسخ قبل التمكن من الفعل . وأبو الحسين في النسخ قبل وقت الفعل ، وتبعه ابن الحاجب وغيره . والأحسن أن يقال : قبل مضي مقدار ما يسعه من وقته ، ليشمل ما إذا حضر وقت الفعل ، ولكن لم يمض مقدار ما يسعه ، فإن هذه الصورة من محل النزاع أيضا . قلت : والقائلون بالنسخ ، قيل : أرادوا به نسخ الخطاب الذي لم يتقدم به عمل ألبتة ، وحينئذ فلا يتوجه ما قاله الإمام ، فإن المراد نسخ الحكم المتلقى من الخطاب قبل التمكن من مقتضاه ألبتة . [ ص: 235 ]

                                                      الثالث : أصل الخلاف هنا الخلاف السابق في صحة التكليف بما علم الآمر انتفاء شرط وقوعه عند وقته ، وكذلك يعلم المأمور كونه مأمورا قبل التمكن من الامتثال . والمعتزلة يمنعونه ، ولهذا أنكروا ثبوت الأمر المقيد بالشرط ، فمن قال : إنه يمتنع كالمعتزلة لزمه هنا عدم جواز النسخ قبل وقته ، إذ لا يتمكن قبل الوقت فلا أمر ، والنسخ يستدعي تحقق الأمر السابق ، فيستحيل النسخ عند عدمه ، ويلزم إمام الحرمين موافقتهم هنا ، لأنه وافقهم على ذلك الأصل . أما من لم يقل بذلك كالجمهور ، فيجوز أن يقول بجوازه ، وأن لا يقول بذلك ، لما يظهر له من دليل تخصيصه ، وليست هذه المسألة فرع تلك على الإطلاق ، أعني في الجواز وعدمه كما أشعر به كلام الغزالي ، بل في عدم الجواز فقط . وفي " تقريب " القاضي أن أصل الخلاف هنا الخلاف الكلامي في جواز إعادة أفعال العبادة ، وقد سبق قريبا .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية