الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 426 ] كتاب العارية

                                                                                                                                                                        هي بتشديد الياء . قال الخطابي في الغريب : وقد تخفف ، وفيه بابان .

                                                                                                                                                                        الأول : في أركانها ، وهي أربعة .

                                                                                                                                                                        الأول : المعير ، ويعتبر فيه أن يملك للمنفعة ، وأن لا يكون محجورا عليه في التبرعات ، فيجوز للمستأجر أن يعير لأنه يملك المنفعة ، وللموصى له بخدمة عبد أو سكن دار ونحوهما أن يعيرهما ، وليس للمستعير أن يعير على الصحيح ، ولكن له أن يستوفي المنفعة لنفسه بوكيله .

                                                                                                                                                                        قلت : قال صاحب العدة : ليس للأب أن يعير ولده الصغير لمن يخدمه ؛ لأن ذلك هبة لمنافعه ، فأشبه إعارة ماله . وهذا الذي قاله ، ينبغي أن يحمل على خدمة تقابل بأجرة ، أما ما كان محقرا بحيث لا يقابل بأجرة ، فالظاهر الذي تقتضيه أفعال السلف : أنه لا منع منه إذا لم يضر بالصبي ، وقد سبق في كتاب " الحجر " نحو هذا . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        الركن الثاني : المستعير ، ويشترط فيه كونه أهلا للتبرع عليه بعقد يشتمل على إيجاب وقبول بقول أو فعل ، فلا تصح الإعارة للصبي ، كما لا يوهب له .

                                                                                                                                                                        الركن الثالث : المستعار ، وله شرطان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : كونه منتفعا به مع بقاء عينه ، كالعبد ، والثوب ، والدابة ، والدار ، فلا يجوز إعارة الطعام قطعا ، ولا الدراهم والدنانير على الأصح .

                                                                                                                                                                        قال الإمام : ويجري الوجهان في إعارة الحنطة والشعير ونحوهما . ثم السابق إلى الفهم من كلام [ ص: 427 ] الأصحاب ، أن الخلاف فيما إذا أطلق إعارة الدراهم ، فأما إذا صرح بالإعارة للتزيين ، فينبغي أن يقطع بالصحة ، وبه قطع المتولي ؛ لأنه اتخذ هذه المنفعة مقصودا وإن ضعفت ، وإذا لم نصححها ، فجرت ، فهي مضمونة على الصحيح ؛ لأن العارية الصحيحة مضمونة ، وللفاسد حكم الصحيح في الضمان ، وقيل : لا ضمان ؛ لأن ما جرى بينهما ليس بعارية صحيحة ولا فاسدة . ومن قبض مال غيره بإذنه لا لمنفعته ، كان أمانة .

                                                                                                                                                                        الشرط الثاني : كون المنفعة مباحة ، فيحرم استعارة الجارية للاستمتاع . وأما للخدمة ، فيجوز إن أعارها لمحرم أو امرأة ، وإلا فلا يجوز ، لخوف الفتنة ، إلا إذا كانت صغيرة لا تشتهى ، أو قبيحة ، فوجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما : الجواز ، وبه قطع جماعة ، منهم صاحب " التهذيب " . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        قال الغزالي : وإذا أعارها ، صحت الإعارة ، وإن كانت محرمة . ويشبه أن يقال بالفساد ، كالإجارة للمنفعة المحرمة ، ويشعر به إطلاق الجمهور نفي الجواز .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يكره استعارة أحد الأبوين للخدمة لأن استخدامهما مكروه ، ولفظ الإمام بنفي الحل .

                                                                                                                                                                        قلت : الذي قاله الأصحاب ، أنه يكره كراهة تنزيه ، قال الجرجاني : ويكره أيضا استئجارهما . وقد يجوز إعارة ما لا يجوز إجارته ، وهو الفحل للضراب ، والكلب للصيد ، فإن إعارتهما صحيحة ، وإجارتهما باطلة على الأصح . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 428 ] وتكره إعارة العبد المسلم لكافر كراهة تنزيه .

                                                                                                                                                                        قلت : صرح الجرجاني وآخرون ، بأنها حرام ، وصرح صاحب المهذب وآخرون ، بأنها لا تجوز ، وظاهره التحريم ، ولكن الأصح الجواز ، وقد سبق في أول البيوع . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        يحرم على الحلال إعارة الصيد من المحرم ، فإن فعل فتلف في يده ، ضمن الجزاء لحق الله تعالى ، والقيمة للحلال . ولو أعار المحرم حلالا ، فإن قلنا : المحرم يزول ملكه عن الصيد فلا قيمة له على الحلال لأنه غير مالك ، وعلى المحرم الجزاء لحق الله تعالى إن تلف في يد الحلال ؛ لأنه متعد بالإعارة ، فإنه يلزمه إرساله . وإن قلنا : لا يزول ، صحت الإعارة ، وعلى الحلال القيمة إن تلف عنده .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        دفع شاة إلى رجل وقال : ملكتك درها ونسلها ، فهي هبة فاسدة ، وما حصل في يده من الدر والنسل ، كالمقبوض بالهبة الفاسدة ، والشاة مضمونة بالعارية الفاسدة . ولو قال : أبحت لك درها ونسلها ، فوجهان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : أنه كقوله : ملكتك .

                                                                                                                                                                        والثاني : أنها إباحة صحيحة ، والشاة عارية صحيحة ، وبه قطع المتولي .

                                                                                                                                                                        قلت : هذا أصح ، واختاره أيضا القاضي أبو الطيب ، وصاحب " الشامل " ، وحكم [ ص: 429 ] هذان والمتولي بالصحة فيما إذا أعاره الشاة ليأخذ لبنها ، أو أعاره شجرة ليأخذ ثمرها . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فعلى هذا ، قد تكون العارية لاستفادة عين ، وليس من شرطها أن يكون المقصود مجرد المنفعة ، بخلاف الإجارة . ولو قال : ملكتك درها ، أو أبحتكه على أن تعلفها ، قال البغوي : العلف أجرة الشاة وثمن الدر والنسل ، فالشاة غير مضمونة لأنها مقبوضة بإجارة فاسدة ، والدر والنسل مضمونان في الشراء الفاسد . وكذا لو دفع قراضة إلى سقاء ، وأخذ الكوز ليشرب ، فسقط الكوز من يده وانكسر ، ضمن الماء لأنه مأخوذ بالشراء الفاسد ، ولم يضمن الكوز لأنه في يده بإجارة فاسدة ، وإن أخذه مجانا ، فالكوز عارية ، والماء كالمقبوض بالهبة الفاسدة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال المتولي : تعيين المستعار عند الإعارة ، ليس بشرط . حتى لو قال : أعرني دابة ، فقال : ادخل الإصطبل فخذ ما أردت ، صحت العارية ، بخلاف الإجارة ، فإنها تصان عن مثل هذا ؛ لأن الغرر لا يحتمل في المعاوضات .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية