الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

قال صاحب المنازل : ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء ، أولها : أن ينظر الجناية والقضية ، فيعرف مراد الله فيها ، إذ خلاك وإتيانها ، فإن الله عز وجل إنما خلى العبد والذنب لأجل معنيين :

أحدهما : أن يعرف عزته في قضائه ، وبره في ستره ، وحلمه في إمهال راكبه ، وكرمه في قبول العذر منه ، وفضله في مغفرته .

الثاني : أن يقيم على عبده حجة عدله ، فيعاقبه على ذنبه بحجته .

اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظر إلى خمسة أمور :

[ ص: 222 ] أحدها : أن ينظر إلى أمر الله ونهيه ، فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة ، والإقرار على نفسه بالذنب .

الثاني : أن ينظر إلى الوعد والوعيد ، فيحدث له ذلك خوفا وخشية ، تحمله على التوبة .

الثالث : أن ينظر إلى تمكين الله له منها ، وتخليته بينه وبينها ، وتقديرها عليه ، وأنه لو شاء لعصمه منها ، فيحدث له ذلك أنواعا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته ، وحكمته ، ورحمته ، ومغفرته وعفوه ، وحلمه وكرمه ، وتوجب له هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء ، لا تحصل بدون لوازمها البتة ، ويعلم ارتباط الخلق والأمر ، والجزاء والوعد والوعيد بأسمائه وصفاته ، وأن ذلك موجب الأسماء والصفات ، وأثرها في الوجود ، وأن كل اسم وصفة مقتض لأثره وموجبه ، متعلق به لا بد منه .

وهذا المشهد يطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان ، وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم .

فمن بعضها : ما ذكره الشيخ أن يعرف العبد عزته في قضائه ، وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضي بما يشاء ، وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه ، بأن قلب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء ، وحال بين العبد وقلبه ، وجعله مريدا شائيا لما شاء منه العزيز الحكيم ، وهذا من كمال العزة ، إذ لا يقدر على ذلك إلا الله ، وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك ، وأما جعلك مريدا شائيا لما يشاؤه منك ويريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة .

فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظه بقلبه ، وتمكن شهوده منه ، كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له ، لأنه يصير مع الله لا مع نفسه .

ومن معرفة عزته في قضائه : أن يعرف أنه مدبر مقهور ، ناصيته بيد غيره ، لا عصمة له إلا بعصمته ، ولا توفيق له إلا بمعونته ، فهو ذليل حقير ، في قبضة عزيز حميد .

ومن شهود عزته أيضا في قضائه : أن يشهد أن الكمال والحمد ، والغناء التام ، والعزة كلها لله ، وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم ، والعيب والظلم والحاجة ، وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ، ازداد شهوده لعزة الله وكماله ، وحمده وغناه ، وكذلك بالعكس ، فنقص الذنب وذلته يطلعه على مشهد العزة .

ومنها : أن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية ، فإذا شهد جريان [ ص: 223 ] الحكم ، وجعله فاعلا لما هو غير مختار له ، مريد بإرادته ومشيئته واختياره ، فكأنه مختار غير مختار ، مريد غير مريد ، شاء غير شاء ، فهذا يشهد عزة الله وعظمته ، وكمال قدرته .

ومنها : أن يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية ، مع كمال رؤيته له ، ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه ، وهذا من كمال بره ، ومن أسمائه : البر ، وهذا البر من سيده كان عن به كمال غناه عنه ، وكمال فقر العبد إليه ، فيشتغل بمطالعة هذه المنة ، ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم ، فيذهل عن ذكر الخطيئة ، فيبقى مع الله سبحانه ، وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته ، وشهود ذل معصيته ، فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى ، والمقصد الأسنى .

ولا يوجب هذا نسيان الخطيئة مطلقا ، بل في هذه الحال ، فإذا فقدها فليرجع إلى مطالعة الخطيئة ، وذكر الجناية ، ولكل وقت ومقام عبودية تليق به .

ومنها : شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة ، ولو شاء لعاجله بالعقوبة ، ولكنه الحليم الذي لا يعجل ، فيحدث له ذلك معرفة ربه سبحانه باسمه الحليم ، ومشاهدة صفة الحلم ، والتعبد بهذا الاسم ، والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله ، وأصلح للعبد ، وأنفع من فوتها ، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع .

ومنها : معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم من الاعتذار ، لا بالقدر ، فإنه مخاصمة ومحاجة ، كما تقدم ، فيقبل عذره بكرمه وجوده ، فيوجب له ذلك اشتغالا بذكره وشكره ، ومحبة أخرى لم تكن حاصلة له قبل ذلك ، فإن محبتك لمن شكرك على إحسانك وجازاك به ، ثم غفر لك إساءتك ولم يؤاخذك بها أضعاف محبتك على شكر الإحسان وحده ، والواقع شاهد بذلك ، فعبودية التوبة بعد الذنب لون ، وهذا لون آخر .

ومنها : أن يشهد فضله في مغفرته ، فإن المغفرة فضل من الله ، وإلا فلو أخذك بمحض حقه ، كان عادلا محمودا ، وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك ، فيوجب لك ذلك أيضا شكرا له ومحبة ، وإنابة إليه ، وفرحا وابتهاجا به ، ومعرفة له باسمه الغفار ومشاهدة لهذه الصفة ، وتعبدا بمقتضاها ، وذلك أكمل في العبودية ، والمحبة والمعرفة .

ومنها : أن يكمل لعبده مراتب الذل والخضوع والانكسار بين يديه ، والافتقار إليه ، [ ص: 224 ] فإن النفس فيها مضاهاة للربوبية ، ولو قدرت لقالت كقول فرعون ، ولكنه قدر فأظهر ، وغيره عجز فأضمر ، وإنما يخلصها من هذه المضاهاة ذل العبودية ، وهو أربع مراتب :

المرتبة الأولى : مشتركة بين الخلق ، وهي ذل الحاجة والفقر إلى الله ، فأهل السماوات والأرض جميعا محتاجون إليه ، فقراء إليه ، وهو وحده الغني عنهم ، وكل أهل السماوات والأرض يسألونه ، وهو لا يسأل أحدا .

المرتبة الثانية : ذل الطاعة والعبودية ، وهو ذل الاختيار ، وهذا خاص بأهل طاعته ، وهو سر العبودية .

المرتبة الثالثة : ذل المحبة ، فإن المحب ذليل بالذات ، وعلى قدر محبته له يكون ذله ، فالمحبة أسست على الذلة للمحبوب ، كما قيل :


اخضع وذل لمن تحب فليس في حكم الهوى أنف يشال ويعقد

وقال آخر :


مساكين أهل الحب حتى قبورهم     عليها تراب الذل بين المقابر

المرتبة الرابعة : ذل المعصية والجناية .

فإذا اجتمعت هذه المراتب الأربع كان الذل لله والخضوع له أكمل وأتم ، إذ يذل له خوفا وخشية ، ومحبة وإنابة ، وطاعة ، وفقرا وفاقة .

وحقيقة ذلك هو الفقر الذي يشير إليه القوم ، وهذا المعنى أجل من أن يسمى بالفقر ، بل هو لب العبودية وسرها ، وحصوله أنفع شيء للعبد ، وأحب شيء إلى الله .

فلا بد من تقدير لوازمه من أسباب الضعف والحاجة ، وأسباب العبودية والطاعة ، وأسباب المحبة والإنابة ، وأسباب المعصية والمخالفة ، إذ وجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ، والغاية من تقدير عدم هذا الملزوم ولازمه ، مصلحة وجوده خير من مصلحة فوته ، ومفسدة فوته أكبر من مفسدة وجوده ، والحكمة مبناها على دفع أعظم المفسدتين [ ص: 225 ] باحتمال أدناهما ، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما ، وقد فتح لك الباب ، فإن كنت من أهل المعرفة فادخل ، وإلا فرد الباب وارجع بسلام .

ومنها : أن أسماءه الحسنى تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها ، فاسم السميع ، البصير يقتضي مسموعا ومبصرا ، واسم الرزاق يقتضي مرزوقا ، واسم الرحيم يقتضي مرحوما ، وكذلك أسماء الغفور ، والعفو ، والتواب ، والحليم يقتضي من يغفر له ، ويتوب عليه ، ويعفو عنه ، ويحلم ، ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات ، إذ هي أسماء حسنى وصفات كمال ، ونعوت جلال ، وأفعال حكمة وإحسان وجود ، فلا بد من ظهور آثارها في العالم ، وقد أشار إلى هذا أعلم الخلق بالله ، صلوات الله وسلامه عليه ، حيث يقول : لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ، ثم يستغفرون فيغفر لهم .

وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدوما ، فمن يرزق الرزاق سبحانه ؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم ، فلمن يغفر ؟ وعمن يعفو ؟ وعلى من يتوب ويحلم ؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سدت ، والعبيد أغنياء معافون ، فأين السؤال والتضرع والابتهال ؟ والإجابة وشهود الفضل والمنة ، والتخصيص بالإنعام والإكرام ؟

فسبحان من تعرف إلى خلقه بجميع أنواع التعرفات ، ودلهم عليه بأنواع الدلالات ، وفتح لهم إليه جميع الطرقات ، ثم نصب إليه الصراط المستقيم ، وعرفهم به ودلهم عليه ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم .

ومنها : السر الأعظم ، الذي لا تقتحمه العبارة ، ولا تجسر عليه الإشارة ، ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رءوس الأشهاد ، بل شهدته قلوب خواص العباد ، فازدادت به معرفة لربها ومحبة له ، وطمأنينة به وشوقا إليه ، ولهجا بذكره ، وشهودا لبره ، ولطفه وكرمه وإحسانه ، ومطالعة لسر العبودية ، وإشرافا على حقيقة الإلهية ، وهو ما ثبت [ ص: 226 ] في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أفرح بتوبة عبده - حين يتوب إليه - من أحدكم ، كان على راحلة بأرض فلاة ، فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه ، فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها ، قد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده ، فأخذ بخطامها ، ثم قال - من شدة الفرح - اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح هذا لفظ مسلم .

وفي الحديث من قواعد العلم : أن اللفظ الذي يجري على لسان العبد خطأ من فرح شديد ، أو غيظ شديد ، ونحوه ، لا يؤاخذ به ، ولهذا لم يكن هذا كافرا بقوله : أنت عبدي وأنا ربك .

ومعلوم أن تأثير الغضب في عدم القصد يصل إلى هذه الحال ، أو أعظم منها ، فلا ينبغي مؤاخذة الغضبان بما صدر منه في حال شدة غضبه من نحو هذا الكلام ، ولا يقع طلاقه بذلك ، ولا ردته ، وقد نص الإمام أحمد على تفسير الإغلاق في قوله صلى الله عليه وسلم لا طلاق في إغلاق بأنه الغضب ، وفسره به غير واحد من الأئمة ، وفسروه بالإكراه والجنون .

قال شيخنا : وهو يعم هذا كله ، وهو من الغلق ، لانغلاق قصد المتكلم عليه ، فكأنه لم ينفتح قلبه لمعنى ما قاله .

والقصد : أن هذا الفرح له شأن لا ينبغي للعبد إهماله والإعراض عنه ولا يطلع عليه إلا من له معرفة خاصة بالله وأسمائه وصفاته ، وما يليق بعز جلاله .

وقد كان الأولى بنا طي الكلام فيه إلى ما هو اللائق بأفهام بني الزمان وعلومهم ، ونهاية أقدامهم من المعرفة ، وضعف عقولهم عن احتماله .

غير أنا نعلم أن الله عز وجل سيسوق هذه البضاعة إلى تجارها ، ومن هو عارف بقدرها ، وإن وقعت في الطريق بيد من ليس عارفا بها ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه .

[ ص: 227 ] فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله ، وشرفه ، وخلقه لنفسه ، وخلق كل شيء له ، وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره ، وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما ، حتى ملائكته - الذين هم أهل قربه - استخدمهم له ، وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته ، وظعنه وإقامته ، وأنزل إليه وعليه كتبه ، وأرسله وأرسل إليه ، وخاطبه وكلمه منه إليه ، واتخذ منهم الخليل والكليم ، والأولياء والخواص والأحبار ، وجعلهم معدن أسراره ، ومحل حكمته ، وموضع حبه ، وخلق لهم الجنة والنار ، وخلق الأمر ، والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني ، فإنه خلاصة الخلق ، وهو المقصود بالأمر والنهي ، وعليه الثواب والعقاب .

فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات ، وقد خلق أباه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأظهر فضله على الملائكة فمن دونهم من جميع المخلوقات ، وطرد إبليس عن قربه ، وأبعده عن بابه ، إذ لم يسجد له مع الساجدين ، واتخذه عدوا له .

فالمؤمن من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق ، وخيرة الله من العالمين ، فإنه خلقه ليتم نعمته عليه ، وليتواتر إحسانه إليه ، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته ، ولم يخطر على باله ولم يشعر به ، ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة ، التي لا تنال إلا بمحبته ، ولا تنال محبته إلا بطاعته ، وإيثاره على ما سواه ، فاتخذه محبوبا له ، وأعد له أفضل ما يعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قدم عليه ، وعهد إليه عهدا تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه ، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه ، ويزيده محبة له وكرامة عليه ، وما يبعده منه ويسخطه عليه ، ويسقطه من عينه .

وللمحبوب عدو ، هو أبغض خلقه إليه ، قد جاهره بالعداوة ، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له ، دون وليهم ومعبودهم الحق ، واستقطع عباده ، واتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم ، وكانوا أعداء له مع هذا العدو ، يدعون إلى سخطه ، ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته ، ويسبونه ويكذبونه ، ويفتنون أولياءه ، ويؤذونهم بأنواع الأذى ، ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدولة لهم ، ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه ، وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه ، فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وما لهم ، وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم والكون معهم .

وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين ، وأكرم الأكرمين ، وأرحم الراحمين ، وأنه سبقت رحمته غضبه ، وحلمه عقوبته ، وعفوه مؤاخذته ، وأنه قد أفاض على خلقه النعمة ، [ ص: 228 ] وكتب على نفسه الرحمة ، وأنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر ، وأن الفضل كله بيده ، والخير كله منه ، والجود كله له ، وأحب ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلا ، ويغمرهم إحسانا وجودا ، ويتم عليهم نعمته ، ويضاعف لديهم منته ، ويتعرف إليهم بأوصافه وأسمائه ، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه .

فهو الجواد لذاته ، وجود كل جواد خلقه الله ، ويخلقه أبدا أقل من ذرة بالقياس إلى جوده ، فليس الجواد على الإطلاق إلا هو ، وجود كل جواد فمن جوده ، ومحبته للجود والإعطاء والإحسان ، والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطر ببال الخلق ، أو يدور في أوهامهم ، وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه ويأخذه ، أحوج ما هو إليه أعظم ما كان قدرا ، فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها ، فما الظن بفرح المعطي ؟ ففرح المعطي سبحانه بعطائه أشد وأعظم من فرح هذا بما يأخذه ، ولله المثل الأعلى ، إذ هذا شأن الجواد من الخلق ، فإنه يحصل له من الفرح والسرور ، والابتهاج واللذة بعطائه وجوده فوق ما يحصل لمن يعطيه ، ولكن الآخذ غائب بلذة أخذه ، عن لذة المعطي ، وابتهاجه وسروره ، هذا مع كمال حاجته إلى ما يعطيه وفقره إليه ، وعدم وثوقه باستخلاف مثله ، وخوف الحاجة إليه عند ذهابه ، والتعرض لذل الاستعانة بنظيره ومن هو دونه ، ونفسه قد طبعت على الحرص والشح .

فما الظن بمن تقدس وتنزه عن ذلك كله ؟ ولو أن أهل سماواته وأرضه ، وأول خلقه وآخرهم ، وإنسهم وجنهم ، ورطبهم ويابسهم ، قاموا في صعيد واحد فسألوه ، فأعطى كل واحد ما سأله ما نقص ذلك مما عنده مثقال ذرة .

وهو الجواد لذاته ، كما أنه الحي لذاته ، العليم لذاته ، السميع البصير لذاته ، فجوده العالي من لوازم ذاته ، والعفو أحب إليه من الانتقام ، والرحمة أحب إليه من العقوبة ، والفضل أحب إليه من العدل ، والعطاء أحب إليه من المنع .

فإذا تعرض عبده ومحبوبه الذي خلقه لنفسه ، وأعد له أنواع كرامته ، وفضله على غيره ، وجعله محل معرفته ، وأنزل إليه كتابه ، وأرسل إليه رسوله ، واعتنى بأمره ولم يهمله ، ولم يتركه سدى ، فتعرض لغضبه ، وارتكب مساخطه وما يكرهه وأبق منه ، ووالى عدوه وظاهره عليه ، وتحيز إليه ، وقطع طريق نعمه وإحسانه إليه التي هي أحب شيء [ ص: 229 ] إليه ، وفتح طريق العقوبة والغضب والانتقام فقد استدعى من الجواد الكريم خلاف ما هو موصوف به من الجود والإحسان والبر ، وتعرض لإغضابه وإسخاطه وانتقامه ، وأن يصير غضبه وسخطه في موضع رضاه ، وانتقامه وعقوبته في موضع كرمه وبره وعطائه ، فاستدعى بمعصيته من أفعاله ما سواه أحب إليه منه ، وخلاف ما هو من لوازم ذاته من الجود والإحسان .

فبينما هو حبيبه المقرب المخصوص بالكرامة ، إذ انقلب آبقا شاردا ، رادا لكرامته ، مائلا عنه إلى عدوه ، مع شدة حاجته إليه ، وعدم استغنائه عنه طرفة عين .

فبينما ذلك الحبيب مع العدو في طاعته وخدمته ، ناسيا لسيده ، منهمكا في موافقة عدوه ، قد استدعى من سيده خلاف ما هو أهله إذ عرضت له فكرة فتذكر بر سيده وعطفه وجوده وكرمه ، وعلم أنه لا بد له منه ، وأن مصيره إليه ، وعرضه عليه ، وأنه إن لم يقدم عليه بنفسه قدم به عليه على أسوأ الأحوال ، ففر إلى سيده من بلد عدوه ، وجد في الهرب إليه حتى وصل إلى بابه ، فوضع خده على عتبة بابه ، وتوسد ثرى أعتابه ، متذللا متضرعا ، خاشعا باكيا آسفا ، يتملق سيده ويسترحمه ، ويستعطفه ويعتذر إليه ، قد ألقى بيده إليه ، واستسلم له وأعطاه قياده ، وألقى إليه زمامه ، فعلم سيده ما في قلبه ، فعاد مكان الغضب عليه رضا عنه ، ومكان الشدة عليه رحمة به ، وأبدله بالعقوبة عفوا ، وبالمنع عطاء ، وبالمؤاخذة حلما ، فاستدعى بالتوبة والرجوع من سيده ما هو أهله ، وما هو موجب أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ، فكيف يكون فرح سيده به ؟ وقد عاد إليه حبيبه ووليه طوعا واختيارا ، وراجع ما يحبه سيده منه برضاه ، وفتح طريق البر والإحسان والجود ، التي هي أحب إلى سيده من طريق الغضب والانتقام والعقوبة ؟ .

وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه حصل له شرود وإباق من سيده ، فرأى في بعض السكك بابا قد فتح ، وخرج منه صبي يستغيث ويبكي ، وأمه خلفه تطرده ، حتى خرج ، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت ، فذهب الصبي غير بعيد ، ثم وقف مفكرا ، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه ، ولا من يئويه غير والدته ، فرجع مكسور القلب حزينا ، فوجد الباب مرتجا ، فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام ، فخرجت أمه ، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه ، والتزمته تقبله وتبكي ، وتقول : يا ولدي ، أين تذهب عني ؟ ومن يئويك سواي ؟ ألم أقل لك : لا تخالفني ، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة بك ، والشفقة عليك ، وإرادتي الخير لك ؟ ثم أخذته ودخلت .

[ ص: 230 ] فتأمل قول الأم : لا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلت عليه من الرحمة والشفقة .

وتأمل قوله صلى الله عليه وسلم لله أرحم بعباده من الوالدة بولدها وأين تقع رحمة الوالدة من رحمة الله التي وسعت كل شيء ؟

فإذا أغضبه العبد بمعصيته فقد استدعى منه صرف تلك الرحمة عنه ، فإذا تاب إليه فقد استدعى منه ما هو أهله وأولى به .

فهذه نبذة يسيرة تطلعك على سر فرح الله بتوبة عبده أعظم من فرح هذا الواجد لراحلته في الأرض المهلكة ، بعد اليأس منها .

ووراء هذا ما تجفو عنه العبارة ، وتدق عن إدراكه الأذهان .

وإياك وطريقة التعطيل والتمثيل ، فإن كلا منهما منزل ذميم ، ومرتع على علاته وخيم ، ولا يحل لأحدهما أن يجد روائح هذا الأمر ونفسه ، لأن زكام التعطيل والتمثيل مفسد لحاسة الشم ، كما هو مفسد لحاسة الذوق ، فلا يذوق طعم الإيمان ، ولا يجد ريحه ، والمحروم كل المحروم من عرض عليه الغنى والخير فلم يقبله ، فلا مانع لما أعطى الله ، ولا معطي لما منع ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية