الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                  صفحة جزء
                                                                  حديث الإفك

                                                                  9748 عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، وعروة بن الزبير ، وعلقمة بن وقاص ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الإفك ما قالوا قال : فبرأها الله وكلهم حدثني بطائفة من حديثها ، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض ، وأثبت اقتصاصا ، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني ، وبعض حديثهم يصدق بعضا ، ذكروا أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه قالت عائشة : [ ص: 411 ] فأقرع بيننا في غزاة غزاها ، فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد ما أنزل الله علينا الحجاب ، وأنا أحمل في هودجي ، وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه قفل ، ودنونا من المدينة ، آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني ، أقبلت إلى رحلي ، فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع فالتمست عقدي ، فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فحملوا الهودج فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب ، وهم يحسبون أني فيه قال : وكانت النساء إذ ذاك خفافا فلم يهبلن ، ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم [ ص: 412 ] ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا به ، ووجدت عقدي بهما بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت حتى أصبحت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش فادلج فأصبح عندي ، فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني وقد كان رآني قبل أن يضرب علي الحجاب ، فما استيقظت إلا باسترجاعه ، حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي ، ووالله ما كلمني كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك [ ص: 413 ] من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ابن سلول ، فقدمت المدينة فتشكيت حين قدمتها شهرا ، والناس يخوضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي ، أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ويقول : " كيف تيكم ؟ " فذلك [ الذي ] يريبني ، ولا أشعر حتى خرجت بعدما نقهت ، وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا ، ولا نخرج إلا ليلا إلى ليل ، وذلك قبل أن تتخذ الكنف قريبا من بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي ابنة أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف وأمها أم صخر بن عامر خالة [ ص: 414 ] أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قبل بيتي حين فرغنا من شأننا ، فعثرت أم مسطح في مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت أتسبين رجلا شهد بدرا ؟ قالت : أي هنتاه أولم تسمعي ما قال : قالت : قلت : وماذا قال ؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : " كيف تيكم ؟ " ، قلت : أتأذن لي أن آتي أبوي ؟ قالت : وأنا حينئذ أريد [ أن ] أتيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمه ما يتحدث الناس ؟ فقالت : أي بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ، ولها ضرائر إلا أكثرن عليها ، قلت : سبحان الله أوقد [ ص: 415 ] يحدث الناس بهذا ؟ قالت : نعم قالت : فبكيت تلك الليلة لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب ، وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستشيرهما في فراق أهله قالت : فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم ، فقال : [ يا ] رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهلك ولا نعلم إلا خيرا ، وأما علي ، فقال : لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثيرة وإن تسأل الجارية تصدقك قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة ، فقال : " أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من أمر عائشة ؟ " ، فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن ، تنام عن عجين أهلها ، فتأتي الداجن فتأكله قالت : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن السلول قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : " يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغ أذاه في أهل بيتي ، فوالله ما علمت على أهل بيتي إلا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا ، وما كان يدخل على أهلي إلا معي " [ ص: 416 ] فقام سعد بن معاذ الأنصاري ، فقال : أعذرك منه يا رسول الله إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلا صالحا ، ولكنه حملته الجاهلية ، فقال لسعد بن معاذ : لعمر الله لا تقتلنه ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافقين قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر ، فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت النبي صلى الله عليه وسلم قالت : ومكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي قالت : فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي ، استأذنت علي امرأة ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جلس قالت : ولم يجلس عندي منذ ما قيل وقد لبث شهرا لا يوحى إليه قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : " أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن [ ص: 417 ] كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ، ثم تاب تاب الله عليه " قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا ، وإني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا الأمر حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة والله يعلم براءتي لا تصدقوني بذلك ، ولئن اعترفت لكم بذنب والله يعلم أني بريئة لتصدقوني ، وإني والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا كما قال أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، وأنا والله حينئذ أعلم أني بريئة ، وأن الله مبرئي ببراءتي ، ولكن والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحي يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله في بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام رؤيا يبرئني الله [ ص: 418 ] بها قالت : فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان في اليوم الشات من ثقل الوحي الذي أنزل عليه قالت : فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سري عنه وهو يضحك ، وكان أول كلمة تكلم بها أن قال : " أبشري يا عائشة أما والله قد أبرأك الله " . فقالت لي أمي : قومي إليه ، فقلت : لا والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي قالت : فأنزل الله تبارك وتعالى إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم عشر آيات ، فأنزل الله هذه الآيات في براءتي قالت : فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل الله ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة إلى قوله ألا تحبون أن يغفر الله لكم فقال أبو بكر : والله إني [ ص: 419 ] لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه قال : والله لا أنزعها أبدا قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب ابنة جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري : ما علمت أو ما رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري والله ما علمت إلا خيرا قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع ، وطفقت أختها حمنة ابنة جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك ، قال الزهري : " فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط " .

                                                                  التالي السابق


                                                                  الخدمات العلمية