الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 506 ] 931 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ، ومما روي عنه مع ذلك في الحال التي تزوج فيها ميمونة من حرم أو حل

5793 - حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أن مالكا ، وابن أبي ذئب حدثاه ، عن نافع ، عن نبيه بن وهب أخي بني عبد الدار ، عن أبان بن عثمان قال : سمعت أبي عثمان بن عفان يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ينكح المحرم ، ولا ينكح ، ولا يخطب [ ص: 507 ] .

5794 - وحدثنا أحمد بن داود بن موسى ، حدثنا أبو معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج ، حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، حدثنا أيوب بن موسى المكي ، حدثني ابن وهب - ولم يذكر بينه وبين أيوب أحدا - عن أبان بن عثمان ، حدثني عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المحرم لا ينكح ولا ينكح [ ص: 508 ] .

5795 - وحدثنا محمد بن جعفر بن محمد المعروف بابن الإمام ، حدثنا يوسف بن موسى القطان ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن إسحاق بن راشد ، عن زيد بن علي ، عن أبان بن عثمان ، حدثني عثمان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : لا ينكح المحرم ولا ينكح .

ففي هذا الحديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم عما نهاه عنه مما ذكر فيه ، وكان نهيه إياه عن ذلك تنازع أهل العلم في مراده به ، ما هو ؟ فقال بعضهم : هو لأن نكاحه كذلك لا يجوز لنفسه ولا لغيره لإحرامه الذي هو فيه ، مما الجماع فيه عليه حرام ، وممن ذهب إلى ذلك منهم : مالك بن أنس ، والشافعي في كثير من أهل الحجاز ، غير أن مالكا قد كان قال في ذلك مما ذكر ابن وهب عنه .

مما قد حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، عن مالك ، قال : يفرق بينهما ، ويكون ذلك تطليقة ، وروى عنه عبد الرحمن بن القاسم : أنه يفرق بينهما ، ويكون فسخا بغير طلاق . وكان ذلك العقد لا يخلو من أحد وجهين من أن يكون يوجب ملك البضع أو لا يوجبه ، فإن كان يوجب ملكه ، فلا معنى لإيقاع طلاق فيه لا يريد مالكه ، وإن كان لا يوجب ملكه ، فلا معنى لإيقاع [ ص: 509 ] طلاق فيه ، لأن الطلاق إنما يقع ممن تقدم ملكه للبضع الذي يقع فيه ، وكذلك الفسخ فإنما يكون لما قد كان قبل عقده منعقدا إلا بما يزول به الإملاك عن مثله باختيار مالكيها كذلك .

وقال بعضهم : ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك مما ذكر في هذا الحديث إنما هو على كراهيته للمحرم من الرفث في إحرامه خوفا منه عليه أن يكون سببا لوقوعه فيه ، لا أنه على نفسه أو على غيره بأمره لم يكن جائزا . قالوا : والدليل على ما قد ذكرنا من ذلك ما قد روي عنه صلى الله عليه وسلم من تزويجه ميمونة في حال إحرامه .

5796 - كما حدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا إبراهيم بن بشار .

5797 - وكما حدثنا المزني ، حدثنا الشافعي ، قالا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار بن زيد ، عن ابن عباس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم .

قال عمرو ، فحدثني ابن شهاب ، عن يزيد بن الأصم : أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهي خالته وهو حلال .

قال عمرو : فقلت للزهري : وما يدري يزيد بن الأصم ، أعرابي بوال ، أتجعله إلى ابن عباس ؟ [ ص: 510 ] فكان هذا مما لا يختلف عن ابن عباس فيه ، وقد روي عن عائشة موافقتها إياه على ذلك .

5798 - كما حدثنا محمد بن خزيمة ، وفهد بن سليمان ، قالا : حدثنا معلى بن أسد ، حدثنا أبو عوانة ، عن مغيرة ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : تزوج النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه وهو محرم .

[ ص: 511 ] وهذا مما لا نعلمه روي عن عائشة رضي الله عنها مما يخالفه ، وقد روي عن أبي هريرة أيضا ما يوافق ذلك .

5799 - كما حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني ، حدثنا خالد بن عبد الرحمن الخراساني ، حدثنا كامل أبو العلاء ، عن أبي صالح [ ص: 512 ] ، عن أبي هريرة ، قال : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم ، وهذا مما لا نعلم أيضا عن أبي هريرة فيه خلافا لذلك .

فقال قائل : فقد روي عن أبي رافع : أن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة كان وهو حلال ، وذكر في ذلك .

5800 - ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا حبان بن هلال ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مطر - يعني الوراق - ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار ، عن أبي رافع : أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا ، وبنى بها حلالا ، وكنت الرسول بينهما .

[ ص: 513 ] فكان من الحجة عليه لمخالفيه في ذلك : أن هذا الحديث إنما رواه كما ذكر مطر الوراق ، وقد كان رواه عن ربيعة من هو أحفظ وأثبت ، وهو : مالك بن أنس [ ص: 514 ] .

5801 - كما حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب : أن مالكا حدثه ، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن سليمان بن يسار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع مولاه ورجلا من الأنصار ، فزوجاه ميمونة بنت الحارث ، وهو بالمدينة قبل أن يخرج ، وذكر الحديث .

فعاد هذا الحديث موقوفا على سليمان بن يسار بغير تجاوز به إلى أبي رافع ، فخرج من أن يكون حجة لمن يحتج به في هذا الباب .

فقال هذا القائل : فقد روى عنه مطر في تزويج ميمونة ، عن ميمونة : أنه كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حلال .

5802 - وذكر في ذلك ما قد حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني جرير بن حازم ، أنه سمع أبا فزارة يحدث ، عن يزيد بن الأصم ، قال : أخبرتني ميمونة : أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها حلالا [ ص: 515 ] .

5803 - وما قد حدثنا الربيعان : الربيع المرادي ، والربيع الأزدي ، قالا : حدثنا أسد بن موسى .

5804 - وما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن منهال ، قالوا : حدثنا حماد بن سلمة ، عن حبيب بن الشهيد ، عن ميمون بن مهران ، عن يزيد بن الأصم ، عن ميمونة بنت الحارث ، قالت : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بعد أن رجع من مكة .

[ ص: 516 ] قال : فهذه ميمونة تخبر أن تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إياها وهو حلال .

فكان من الحجة عليه لمخالفيه في ذلك : أن ابن عباس قد أخبر في حديثه أن تزويجه صلى الله عليه وسلم كان إياها قبل ذلك وهو محرم ، وقد روي عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان طلب أن يعرس بها بمكة ، فأبى ذلك عليه أهلها .

5805 - كما قد حدثنا الربيع المرادي ، حدثنا أسد بن موسى ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني أبان بن صالح ، وعبد الله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وعطاء ، عن ابن عباس رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث وهو حرام ، فأقام بمكة ثلاثا ، فأتاه خويلد بن عبد العزى في نفر من قريش في اليوم الثالث ، فقالوا : إنه قد انقضى أجلك فاخرج عنا ، فقال : وماذا عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم ، فصنعنا لكم طعاما فحضرتموه ؟ فقال : لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج بميمونة حتى عرس بها بسرف .

[ ص: 517 ] ففي هذا ما قد دل على أنه صلى الله عليه وسلم قد كان تزوجها في خلاف الوقت الذي ذكره مطر الوراق في حديثه أنه كان وهو بالمدينة قبل أن يخرج .

فإن قال : أفيخفى عن ميمونة وهي المتزوجة الوقت الذي تزوجها فيه ؟

قلنا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان خطبها ، وفوض أمرها إلى العباس ، فزوجها إياه ، فاحتمل أن يكون لما فوض إلى العباس أمرها ما فوضته إليه ، ذهب عنها الوقت الذي كان من العباس فيه عقد التزويج عليها ، فلم تعلم بذلك إلا في الوقت الذي كان بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فيه ، وعلم ابن عباس أنه كان قبل ذلك من أبيه في عقد التزويج عليها ما لحضوره ذلك منه ، ولغيبتها عنه .

فقال قائل : فإن خبر عثمان فيه النهي ، فكيف يجوز أن يكون يحدث بالنهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الإباحة ؟

فكان جوابنا له في ذلك : أن عثمان لم يذكر في حديثه من أمر ميمونة شيئا ، وإنما ذكر فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكر عنه فيه مما قد يجوز أن يكون سمعه منه قبل ذلك ، أو سمعه عنه بعد ذلك مما أراد به غيره من أمته مما هو فيه بخلافهم ، لأنه كان صلى الله عليه وسلم محفوظا مالكا لإربه ، ولم يكن غيره من أمته كذلك ، فنهاهم عما نهاهم عنه للخوف عليهم ما يخاف عليهم من مثله ، وفعل هو صلى الله عليه وسلم لأمانه في ذلك على نفسه منه ، وليس في حديثه ما يدل على أن عقد التزويج المنهي إذا وقع [ ص: 518 ] كان غير جائز .

ومما يؤكد هذا المعنى مما يقصد فيه بالحجة إلى الشافعي أنا رأينا الله عز وجل قد نهى في كتابه عن البيع يوم الجمعة بعد النداء ، بقوله : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فكان من باع ، أو ابتاع في تلك الحال عندك مع نهي الله عنه إياه لا يبطل بيعه ولا ابتياعه مع نهي الله عز وجل عنه ، فما تنكر أن يكون كذلك تزويجه الذي قد نهاه عنه في حديث عثمان إذا كان منه لم يكن باطلا ، ولا مبطلا لتزويجه ، ونقول له ولمالك جميعا في ذلك : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد ، ولا اختلاف بين أهل العلم : أن من فعل ذلك لم يكن ذلك النهي مبطلا بيعه ، فما تنكرون أن يكون النهي الذي كان في تزويجه المحرم ، مع ما قد ذكرناه عن مالك من تفريقه في ذلك بطلاق أو فسخ ، وذلك لا يكون إلا عن عقد قد ثبت ، لأنه لا يقع في تزويج باطل طلاق ولا فسخ ، كان كذلك التزويج كلا تزويج ، وكان في ذلك لأنا رأينا أشياء تمنع من الجماع ، منها : الإحرام ، ومنها : الصيام ، ومنها : الاعتكاف ، وكان من تزوج في صيامه أو اعتكافه جاز تزويجه ، وإن كان مكروها له ذكر الرفث فيما هو فيه ، وكان مثل ذلك تزويجه في [ ص: 519 ] حال إحرامه يكون كذلك أيضا .

فقال قائل : أما ما ذكرته من التزويج في حال الصيام فلا حجة لك فيه ، لأنا قد رأينا الصيام لا يمنع من القبلة ، فكان مثل ذلك لا يمنع من عقد التزويج .

فكان جوابنا له في ذلك : أن ما ذكرت من حكم الصيام لو أعطيناه أن لا حجة له فيه ، لكان ما يعطيه في الاعتكاف عليه فيه من الحجة إلى ما قد ذكرنا ، وفي وجوب ذلك ما قد قامت الحجة لمن ذهب إلى إجازة تزويج المحرم .

فقال قائل : فقد روي في المنع من تزويج المحرم عن ابن عمر الكراهة لذلك فيما قد رويته عن عمر وزيد : أنهما ردا نكاح محرمين ، فإلى قول من خالفت هؤلاء ؟

قيل له : إلى قول عبد الله بن مسعود ، وابن عباس ، وأنس بن مالك .

كما قد حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا جرير بن حازم ، عن سليمان الأعمش ، عن إبراهيم : أن ابن مسعود كان لا يرى بأسا أن يتزوج المحرم .

فإن قال : هذا حديث غير متصل ، قيل له : إن إبراهيم ما ذكره [ ص: 520 ] عن ابن مسعود مما لم يذكر بينه وبينه فيه أحدا ، فهو عن جماعة ، عن ابن مسعود .

كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا وهب أو بشر بن عمر - أبو جعفر يشك فيمن حدث به عنه منهما - ، حدثنا شعبة ، عن سليمان الأعمش ، قال : قلت لإبراهيم : إذا حدثت فأسند . قال : إذا قلت لك : قال عبد الله ، فلم أقل ذلك حتى حدثنيه عن عبد الله غير واحد ، وإذا قلت : حدثني فلان عن عبد الله ، فهو الذي حدثني .

وكما حدثنا محمد بن خزيمة ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حبيب المعلم ، وقيس ، وعبد الكريم ، عن عطاء : أن ابن عباس كان لا يرى بأسا أن يتزوج المحرمان .

وكما حدثنا روح بن الفرج ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر قال : سألت أنس بن مالك رضي الله عنه عن نكاح المحرم فقال : [ ص: 521 ] لا بأس به ، هل هو إلا كالبيع .

هكذا حدثنا روح فقال فيه : عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر ، وبعض الناس يقول : إن بين عبد الله وبين أنس محمد بن أبي بكر - وهو أبو عبد الله هذا - ، وهو الثقفي ، وقد روى عنه مالك وغيره ، ومحمد بن عبد الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية