الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( قال : رحمه الله ) العفو عن القطع ، والضربة ، والشجة ، والجراحة يكون عفوا عن السراية وبيانه أن من قطع يد إنسان ، أو شجه موضحة فقال المجني عليه عفوت عن القطع ، أو عن الشجة ، فإن اقتصر جاز العفو بالاتفاق ، وإن سرى إلى النفس ، فالعفو باطل في قول أبي حنيفة وفي القياس يلزمه النقصان وفي الاستحسان تلزمه الدية في ماله وقال أبو يوسف ومحمد العفو صحيح ولا شيء عليه وأما إذا قال : عفوتك عن الجناية ، أو الشجة وما يحدث منها ، أو عن القطع وما يحدث منه صح العفو بالاتفاق وهما يقولان عفا عن حقه ; لأنا قد بينا أن عد السراية الحق ثابت في الطرف فقبل السراية أولى .

والدليل عليه أن العفو في الانتهاء كالإذن في الابتداء بدليل أنه لو اقتصر فيهما جميعا لم يضمن شيئا ، ثم الإذن في الابتداء بهذه الألفاظ [ ص: 155 ] يسقط ضمان السراية فكذلك العفو في الانتهاء ، وهو بمنزلة ما لو كان العفو بلفظ الجناية ، والدليل عليه هو أن سبب ثبوت الحق الشجة ولولاه لما صح العفو عن الجناية ، أو عن الجراحة وما يحدث منها ، فإذا عفي عن الشجة صار أصل السبب هدرا ، فالسراية التي تنبني عليه تكون هدرا أيضا ، والدليل عليه أن معنى قوله عفوتك عن الشجة أي عن موجب هذه الشجة وموجبها القصاص في الشجة إذا اقتصر وفي النفس إذا سرى فيصرف العفو إليهما كما لو قال المغصوب منه للغاصب أبرأتك عن الغصب يكون ذلك إبراء عن الضمان الواجب بالغصب ، وهو رد العين عند قيامها ورد القيمة بعد هلاكها .

وكذلك المشتري إذا أبرأ البائع عن العيب يكون ذلك إبراء عن موجب العيب ، وهو الرد عند الإمكان ، والرجوع بالنقصان عند تعذر الرد ، والدليل عليه ما قال في الجامع الصغير لو أن عبدا قطع يد إنسان فصالح مولاه عن القطع على أن يدفع العبد إليه فأعتقه المجني عليه ، ثم مات قال : العتق نافذ ، والعبد صلح بالجناية ، فإذا كان الصلح على القطع صلحا عن السراية فكذلك العفو وقال في الزيادات لو ادعى رجل شجة مع السراية وشهد له شاهدان أحدهما بالشجة ، والآخر بها وبالسراية تقبل شهادتهما على الشجة ولو لم تكن الشجة حقه بعد السراية لما قبلت الشهادة لاختلاف الشاهدين في المشهود به وأبو حنيفة يقول عفا عن غير حقه فلا يصح ; لأن العفو إسقاط الحق فإذ صادف ما ليس بحقه كان باطلا وبيانه إن عفا عن اليد وحقه في النفس لما بينا أن بالسراية يتبين أن أصل الفعل كان قتلا وموجب القتل القصاص في النفس دون اليد .

والدليل عليه أن المعتبر في الجنايات مآلها لا حالها ( ألا ترى ) أن أصل الفعل قد يكون موجبا للقصاص وبالسراية يتبين أنه كان غير موجب كما لو قطع يده من المفصل فسرى إلى نصف الساعد فباعتبار المآل هاهنا يتبين أنه لم يكن حقه في اليد قصاصا .

( ألا ترى ) أنه بعد السراية لو قال الولي : عفوتك عن اليد لم يصح ، فكذلك قبل السراية ولو قال المجني عليه ، عفوتك عن القتل ، ثم اقتصر لم يصح فكذلك إذا قال : عفوتك عن اليد فسرى ولا معنى لما قال أنه عفا عن موجب اليد ; لأنه لما قال : عفوتك عن القطع فمعناه عن قطع واجب مقابل هذا القطع لا عن هذا القطع الذي تحقق ; لأن العفو عنه لا يتحقق ، وقد تبين أنه لم يكن قطع واجب بمقابلة هذا القطع وقوله بأن هذا القطع سبب حقه قلنا القطع سبب حقه في اليد لا سبب حقه في النفس ، بل حقه في النفس القتل ; لأن القطع الساري لا يقول أنه قطع ، ثم قتل أو قطع يصير قتلا بمنزلة قنص يصير صيدا ، ولكنه يتبين أنه [ ص: 156 ] كان قتلا في الأصل ; لأن القتل فعل مزهق للروح ، وإنما انزهق هذا الروح عقيب هذا الفعل فعرفنا أنه قتل ; ولهذا صح العفو بلفظ الجناية ; لأن اسم الجناية يتناول القتل وما دونه .

( ألا ترى ) أنه لو قال : لا جناية في قتل فلان ، ثم ادعى عليه النفس ، أو ما دون النفس لم تسمع بخلاف القطع ، فهو اسم حائز لما دون النفس حتى لو قال : لا قطع لي قبل فلان ، ثم ادعى عليه النفس صحت الدعوى ، وكذلك إذا قال : عفوتك عن القطع وما يحدث منه ; لأن ذلك عبارة عن النفس ، وقد تبين أن حقه كان في النفس فصح العفو وهذا بخلاف المأذون في الابتداء ; لأن الإذن صادف محلا هو حقه فيصير المأذون قائما مقام الإذن في إقامة الفعل فيه فكأنه فعل بنفسه وبخلاف ما لو اقتصر ; لأنه تبين هناك أن فعله كان قطعا ، وأن حقه في قطع واجب بمقابلة هذا القطع فأما إذا دفع العبد باليد ، فالصلح هناك باطل عند أبي حنيفة إذا سرى قبل أن يعتقه إلا أن عتقه إنما ينفذ ; لأنه مقبوض بحكم صلح فاسد فيصير مملوكا فينفذ فيه العتق ، ثم من حيث الظاهر إنما دفع العبد باليد ، ومن حيث المعنى قصد المولى دفعه بالجناية ، فإذا لم يتصل به ما لا يمكن فسخه ، وهو العتق اعتبرنا الظاهر وقلنا إذا سرى ، فالصلح باطل ، وإذا اتصل به ما لا يمكن فسخه اعتبرنا المقصود ، وهو الدفع بالجناية فقلنا العتق نافذ ، والعبد صلح بالجناية .

يوضحه أن هناك نفذ العتق لكونه مملوكا له ، وإن كان بسبب فاسد ويضمن قيمته لمولاه ، ثم المجني عليه يستوجب القيمة على المولى أيضا ; لأنه دفعه على وجه لم يصر به مختارا فكان مستهلكا فيلزمه قيمته فتقع المقاصة بين القيمتين ; فلهذا قال : العتق نافذ ، والعبد صلح بالجناية وأما مسألة الجامع فقيل أنه قول محمد ، ثم إنما يتبين أن الحق في النفس إذا ثبتت السراية ولم تثبت ; لأن الشاهد بها واحد وبدون السراية الحق في الشجة ، وقد اتفق الشاهدان عليه ولا يقال المدعي يتبرأ من الشجة ; لأنه إنما يتبرأ منها إذا ثبت حقه في النفس ولم يثبت ، فهو بمنزلة ما لو ادعى بيع عين من إنسان بثمن وأنكر المشتري وحلف بنفي العين عن ملك المدعي ; لأنه إنما يتبرأ من ملك العين إذ ثبت حقه في اليمين ولم يثبت ، ثم في القياس يجب القصاص عند أبي حنيفة ; لأن العفو لما حصل من غير حقه كان وجوده كعدمه ، ولكن في الاستحسان قال : حقه في الصورة عند العفو وما أضاف إليه العفو ، وإن تبين في الأخيرة أنه غيره .

وكذلك ما أضاف إليه العفو هو السبب لثبوت حقه في النفس ظاهرا ; ليصير ذلك شبهة في رد القود ، وقد قال في مسألة الجامع الصغير لو لم يعتق العبد حتى سرى ، فالصلح باطل ، والقصاص واجب عند أبي حنيفة قيل ما ذكر هذا حق بسبب [ ص: 157 ] القياس وقيل ، بل أبو حنيفة يفرق فيقول هناك الصلح مضافا إلى العبد ، والعبد ليس بسبب لثبوت حقه في النفس فيصير ذلك شبهة في إسقاط القود ، ثم بنى على هذا الفصل مسألة التزويج على الجراحة بالجناية ، وقد تقدم بيانها في كتاب الصلح .

التالي السابق


الخدمات العلمية