الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
80 - باب ذكر ما نعت الله عز وجل به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في كتابه من الشرف العظيم ، مما تقر به أعين المؤمنين

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

اعلموا رحمنا الله وإياكم أن الله جل ذكره شرف نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بأعلى الشرف ، ونعته بأحسن النعت ، ووصفه بأجمل الصفة ، وأقامه في أعلى الرتب .

أخبرنا مولانا الكريم : أنه بعثه بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه ، وسراجا منيرا .

فقال الله عز وجل : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا * وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ) .

وقال عز وجل : ( إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا * وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ) .

قال محمد بن الحسين :

فقد حذر صلى الله عليه وسلم ، وأنذر ، وبشر ، وما قصر . ثم أخبرنا مولانا الكريم : أن محمدا صلى الله عليه وسلم دعوة أبيه إبراهيم عليه السلام ، ودعوة ابنه إسماعيل عليه السلام ، [ ص: 1387 ] وبشر به عيسى ابن مريم عليه السلام .

قال الله عز وجل : ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم ) .

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

فاستجاب الله عز وجل لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، واختص من ذريتهما من أحب ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، من أشرف قريش نسبا ، وأعلاها قدرا ، وأكرمها بيتا ، وأفضلها عنده ، فبعثه بشيرا ونذيرا .

وقال عز وجل : ( وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) .

فأثبت الله عز وجل على النصارى الحجة ببشارة عيسى عليه والسلام لهم بمحمد صلى الله عليه وسلم . ثم إن الله عز وجل ذكره : أخبر عن أهل الكتابين - اليهود والنصارى - أنهم [ ص: 1388 ] يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل ، وأنه نبي ، وأوجب عليهم اتباعه ونصرته .

فقال جل ذكره : ( قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم ) ، إلى قوله : ( المفلحون ) .

وقال عز وجل : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ) ، إلى قوله : ( صراط مستقيم ) .

وقال عز وجل : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير ) .

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

فقطع الله عز وجل حجج أهل الكتابين بما أخبر من صفته في كتبهم ، وأن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو النور ، وهو الحق ، وأنه يخرجهم من الظلمات [ ص: 1389 ] إلى النور ، وأنه يهديهم إلى صراط مستقيم .

ثم أخبر الله عز وجل : أن الذي يدعو إليه محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ، وهو الصراط المستقيم ، فأوجب على الخلق - الإنس والجن - قبوله ، وأخبر عن الجن لما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره الله عز وجل أن يبلغهم ، عرفوا أنه الحق ، فآمنوا وصدقوا واتبعوه .

فقال جل ذكره : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين * قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم * يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به ) ، الآية .

ثم قال عز وجل : ( وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ) .

ثم أخبر عز وجل : أنه يظهر نبيه صلى الله عليه وسلم على كل دين خالفه ، فقال جل وعز : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ) .

ثم أخبر الله : أنه لا يتم لأحد الإيمان بالله عز وجل وحده ، حتى يؤمن بالله ورسوله ، ثم أخبر أنه من لم يؤمن بالله ورسوله لم يصح له الإيمان .

[ ص: 1390 ]

فقال جل ذكره : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ) الآية .

وقال عز وجل : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) .

وقال عز وجل : ( ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ) .

وقال عز وجل : ( فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير ) .

وقال عز وجل : ( آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ) ، إلى قوله : ( وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين ) .

وقال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا ) .

[ ص: 1391 ] ثم أعلمنا مولانا الكريم : أن علامة صحة من ادعى محبة الله تعالى : أن يكون محبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، متبعا له ، وإلا لم تصح له المحبة لله عز وجل .

قال الله عز وجل : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) .

وقال عز وجل : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) .

فجعل الله عز وجل محبة رسوله واتباعه علما ودليلا لصحة محبتهم له ، مع اتباعهم رسوله فيما جاء به وأمر به ، ونهى عنه . ثم أخبر عز وجل أنه من كفر برسوله كمن كفر بالله ، ومن كذب رسوله فقد كذب الله عز وجل .

[ ص: 1392 ]

فقال الله عز وجل في قصة المنافقين : ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ) .

وقال عز وجل : ( وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله ) ، إلى آخر الآية . ثم إن الله عز وجل أمر المؤمنين أن لا يرغبوا بأنفسهم عن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجهاد معه ، والصبر معه على كل مكروه يلحقهم .

فقال الله عز وجل : ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ) . إلى آخر الآية . ثم إن الله عز وجل أقام نبيه صلى الله عليه وسلم مقام البيان عنه .

فقال عز وجل : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) .

فكان مما بينه لأمته : أن الله عز وجل أوجب عليهم الطهارة والصلاة في كتابه ، ولم يخبر بأوقات الصلاة ، ولا بعدد الركوع ، ولا بعدد السجود ، ولا [ ص: 1393 ]

بما يجوز من القراءة فيها ، وما تحريمها ؟ وما تحليلها ؟ ولا كثير من أحكامها ، فبين صلى الله عليه وسلم مراد الله عز وجل من ذلك .

وكذلك أوجب الزكاة في كتابه ، ولم يبين كم في الورق ، ولا كم في الذهب ، ولا كم في الغنم ، ولا كم في الإبل ، ولا كم في البقر ، ولا كم في الزرع والثمر ، فبين صلى الله عليه وسلم مراد الله عز وجل من ذلك .

وكذلك الصيام بين ما يحل فيه للصائم ، وما يحرم عليه فيه .

وكذلك فرض الله الحج على عباده ، على من استطاع إليه سبيلا ، ولم يخبر عز وجل كيف الإهلال بالحج ؟ ولا ما يلزم المحرم من كثير من الأحكام ؟ فبينه صلى الله عليه وسلم حالا بعد حال .

وكذلك أحكام الجهاد ، وكذلك أحكام البيع والشراء ، وكذلك حرم الله عز وجل الربا على المسلمين ، وتوعدهم عليه بعظيم من العقاب ، ولم يبين لهم في الكتاب : كيف الربا ؟ فبينه لهم الرسول صلى الله عليه وسلم .

وهذا في كثير من الأحكام ، مما يطول شرحه ، لم يعقل ما في الكتاب إلا [ ص: 1394 ] ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، زيادة من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم ، فيما أعطاه من الفضائل التي شرفه بها . ثم فرض على جميع الخلق طاعته ، وحرم عليهم معصيته ، وذلك في غير موضع من كتابه ، قرن طاعة رسوله إلى طاعته عز وجل ، وأعلمهم أنه من عصى رسولي فقد عصاني .

قال الله عز وجل : ( قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) ، وقال عز وجل : ( واتقوا النار التي أعدت للكافرين * وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) .

وقال عز وجل : ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) .

وقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون

بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا
) .

[ ص: 1395 ]

وقال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ) .

وقال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم ) .

ثم قال عز وجل : ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ) .

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

وهذا في القرآن كثير ، في نيف وثلاثين موضعا ، أوجب طاعة رسوله ، وقرنها مع طاعته عز وجل ، ثم حذر خلقه مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن لا يجعلوا أمر نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بشيء ، أو نهاهم عن شيء كسائر الخلق ، [ ص: 1396 ] وأعلمهم عظيم ما يلحق من خالفه من الفتنة التي تلحقه ، فقال عز وجل : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) ، إلى آخر الآية . ثم إن الله عز وجل أوجب على من حكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم حكما أن لا يكون في نفسه حرج أو ضيق لما حكم عليه الرسول ، بل يسلم لحكمه ويرضى .

فقال جل ذكره : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) ، والحرج هاهنا : أن لا يشك .

ثم إن الله عز وجل أثنى على من رضي بما حكم له النبي صلى الله عليه وسلم ، وحكم عليه ، ورضي بما أعطاه من الغنيمة ، من قليل أو كثير ، وذم من لم يرض .

فقال عز وجل : ( ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ) . ثم إن الله عز وجل أخبرنا عن أهل النار إذا هم دخلوها كيف [ ص: 1397 ] يتأسفون على ترك طاعتهم لله ولرسوله ، لم لم يطيعوا الله ورسوله ؟ ، فندموا حيث لم ينفعهم الندم ، وأسفوا حيث لم ينفعهم الأسف .

فقال جل ذكره : ( يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا ) ، الآية .

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

ألا ترون - رحمكم الله - كيف شرف الله عز وجل نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم في كل حال ، يزيده شرفا إلى شرف في الدنيا والآخرة .

ثم اعلموا يا أمة محمد يا [ مؤمنون ] أن الله عز وجل أوجب على جميع الخلق أن يعظموا قدر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتوقير له والتعظيم ، ولا يرفعوا أصواتهم فوق صوته ، ولا يجهروا عليه في المخاطبة ، كجهر بعضهم لبعض ، بل يخفضوا أصواتهم عند صوته ، كل ذلك إجلالا له ، وأعلمهم أنه من خالف ما أمر به من التعظيم لرسولي ، أنى أحبط عمله وهو لا يشعر .

فقال عز وجل : [ ص: 1398 ] ( يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم * يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) . ثم وعد جل وعز من قبل من الله عز وجل ما أمر به في رسوله ، من خفض الصوت والوقار ، المغفرة مع الأجر العظيم ، فقال جل ذكره : ( إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ) .

ثم قال عز وجل : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) .

وقال عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) ، الآية .

كل ذلك يحذر عباده مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم يعظم به قدره عندهم . ثم أمر جل ذكره خلقه إذا هم أرادوا أن يناجوا النبي صلى الله عليه وسلم بشيء مما لهم فيه حظ ، ألا يناجوه حتى يقدموا بين يدي نجواهم صدقة ، فكان الرجل إذا أراد [ ص: 1399 ] أن يناجيه بشيء تصدق بصدقة ، كل ذلك تعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وشرف له صلى الله عليه وسلم ، فلما فعلوا ذلك ضاق على بعضهم الصدقة ، واحتاج إلى مناجاته ، فتوقف عن مناجاته ؛ فخفف الله عز وجل ذلك عن المؤمنين ، رأفة منه بهم .

فقال جل وعز في ابتداء الأمر : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر ) .

هذا لمن قدر على الصدقة ، ثم قال تفضلا [ على من لم يجد صدقة : ( فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم ) ، ثم قال تفضلا ] على الجميع ، على من قدر على الصدقة وعلى من لم يقدر ، فقال جل وعز : ( أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون ) .

فخفف عنهم الصدقة ، وأمرهم بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والطاعة له عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم . ثم إن الله جل وعز أعلم جميع خلقه ، وأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم : أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وأنه قد تمت نعمة الله عز وجل على نبيه بأن [ ص: 1400 ] هداه إلى الصراط المستقيم ، وأعلمه أنه ينصره نصرا عزيزا ، فقال عز وجل : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا ) . ثم أخبر الله عز وجل أن الذين يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنما يبايعون الله عز وجل لعظيم قدر محمد صلى الله عليه وسلم عند ربه تعالى فقال جل ذكره : ( إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ) .

ثم أخبرنا جل ذكره برضاه عنهم ، إذ بايعوا نبيه صلى الله عليه وسلم ، وصدقوا في بيعته بقلوبهم ، فقال عز وجل : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ) . ثم أمر الله جل ذكره المؤمنين أن يتأسوا في أمورهم برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) .

[ ص: 1401 ] ثم أوجب الله عز وجل على المؤمنين أن ينصحوا لله عز وجل ولرسوله ، ثم أعلمهم أنه من نصح لله فلينصح لرسولي ، وقرنهما جميعا ، ولم يفرق بينهما ، فقال عز وجل : ( ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ) . ثم أخبرنا الله عز وجل أنه من خان رسوله صلى الله عليه وسلم كمن خان الله عز وجل فقال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ) . ثم حذر الخلق عن أذى رسوله ، لا يؤذوه في حياته ولا بعد موته ، وأخبر أن المؤذي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كمن آذى الله عز وجل ، وأخبرنا أن المؤذي لله ولرسوله مستحق اللعنة في الدنيا والآخرة ، فقال عز وجل : ( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ) .

وقال عز وجل : ( والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) .

[ ص: 1402 ]

وقال عز وجل : ( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا ) . ثم أخبرنا الله عز وجل أنه من حاد الرسول بالعداوة فقد حاد الله عز وجل فقال عز وجل : ( لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) ، الآية .

وقال عز وجل : ( ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالدا فيها ذلك الخزي العظيم ) . ثم أعلمنا مولانا الكريم أن النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأنه إذا أمر فيهم بأمر فعليهم قبول ما أمر به ، ولا اختيار لهم إلا ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ، في أهليهم ، وفي أموالهم ، وفى أولادهم ، فقال جل وعز : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) .

وقال عز وجل : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) إلى آخر الآية . ثم إن الله عز وجل رفع قدر نبيه صلى الله عليه وسلم ، وزاده شرفا إلى شرفه ، وفضله على سائر الخلق ، بأن حرم أزواجه على جميع العالمين أن يتزوجوهن بعد موته ، وهكذا [ ص: 1403 ] إذا طلق امرأة من نسائه ، دخل بها أو لم يدخل بها ، فقد حرم على كل أحد أن يتزوجها ، لأنهن أمهات المؤمنين ، فقد خصه مولاه الكريم بكل خلق شريف عظيم .

ثم فرض على خلقه أن يصلوا على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأعلمهم أنه يصلي عليه هو وملائكته تشريفا له ، فقال جل ذكره : ( إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ) ، فصلى الله عليه ، وعلى أهله أجمعين ، في الليل والنهار صلاة له رضا ، ولنا بها مغفرة من الله ورحمة ، إن شاء الله ، وعلى آله الطيبين ، ولا حرمنا الله النظر إليه ، وحشرنا على سنته ، والاتباع لما أمر ، والانتهاء عما نهى .

واعلموا - رحمنا الله وإياكم - لو أن مصليا صلى صلاة فلم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم فيها في تشهده الأخير ، وجب عليه إعادة الصلاة .

[ ص: 1404 ]

واعلموا - رحمكم الله - أن جميع ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فحرام على الناس مخالفته ، والنهي على التحريم حتى يأتي عنه دلالة على أنه نهى عنه لمعنى دون معنى التحريم ، وإلا فنهيه على التحريم لجميع ما نهى عنه .

قال الله عز وجل : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) .

قال محمد بن الحسين رحمه الله :

فهذا الذي حضرني ذكره مما شرفه الله عز وجل به في القرآن ، قد ذكرت منه ما فيه بلاغ لمن عقل .

وأنا أذكر بعد هذا مما شرفه الله عز وجل به مما جاءت به السنن عنه ، والآثار عن صحابته حالا بعد حال ، مما يقر الله عز وجل به أعين المؤمنين ، ويزدادون بها إيمانا إلى إيمانهم ، ومحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيما له ، والله الموفق لذلك ، والمعين عليه .

[ ص: 1405 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية