الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 18 ] 935 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في الصدقة في المواشي : ولا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة ، وما كان من خليطين يتراجعان بينهما بالسوية .

5817 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري [ قال : حدثني أبي ] ، عن ثمامة بن عبد الله ، عن أنس أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما استخلف وجه أنس بن مالك إلى البحرين ... وذكر الحديث ، وقال فيها : فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها ، ومن سئل فوقها فلا يعطه ، وفي كتابه ذلك : أن لا يجمع بين مفرق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، وما كان من خليطين ، فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية .

[ ص: 19 ]

5818 - وحدثنا بكار بن قتيبة ، حدثنا أبو عمر الضرير .

وحدثنا الربيع المرادي ، أخبرنا أسد بن موسى ، حدثنا حماد بن سلمة قال :

أرسلني ثابت البناني إلى ثمامة بن عبد الله بن أنس أن يوجه إليه بكتاب أبي بكر - رضي الله عنه - لأنس بن مالك في الصدقة ، فوجه لي معي إليه ، وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ، وفيه ما في حديث إبراهيم بن مرزوق الذي ذكرناه قبله .

5819 - وحدثنا يزيد بن سنان ، حدثنا عمرو بن خالد ، حدثنا زهير بن معاوية ، حدثنا أبو إسحاق ، عن عاصم بن ضمرة [ و] عن الحارث الأعور [ ص: 20 ] عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - قال زهير : أحسبه عن النبي ، وهو عن النبي - عليه السلام - ، ولكن أحسبه أحب إلي - فكان مما فيه : أن لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة .

5820 - وحدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن يزيد .

عن ابن شهاب قال : هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب في الصدقة ، وهي عند آل عمر - رضي الله عنه - أقرأنيها سالم بن عبد الله بن عمر ، فوعيتها على وجهها ، وهي التي نسخ عمر بن عبد العزيز من سالم ، وعبد الله ابني عبد الله بن عمر حين مر على المدينة ، وأمر [ ص: 21 ] عماله العمل بها .

[ ص: 22 ] فكان فيها مثل الذي ذكرناه في أحاديث إبراهيم بن مرزوق ، [ ص: 23 ] وبكار بن قتيبة ، والربيع المرادي التي ذكرنا في هذا الباب .

فتأملنا ما في هذا الحديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة . لنقف على المراد به إن شاء الله تعالى .

فوجدنا أهل العلم قد اختلفوا في ذلك ، وتنازعوا فيه اختلافا ، وتنازعا شديدا ، فكان أحسن ما قالوه في ذلك .

ما حكاه لنا المزني ، عن الشافعي : الذي لا يشك فيه أن الشريكين اللذين لم يقسما الماشية خليطان ، وأنه قد يكون الخليطان : الرجلين يتخالطان بماشيتهما ، وإن عرف كل واحد منهما ماشيته . قال : ولا يكونان خليطين حتى يريحا ، ويسرحا ، ويحلبا ، ويسقيا معا ، وتكون فحولها مختلطة ، فإذا كان هكذا صدقا صدقة الرجل الواحد بكل واحد ، ولا يكونان خليطين حتى يحول عليهما حول من يوم اختلطا ، ويكونا مسلمين ، وإن تفرقا في مراح ، أو مسرح ، أو سقي ، أو يحول على أحدهما قبل حول الآخر ، فليسا بخليطين ، ويصدقان صدقة الاثنين .

ومعنى قوله : لا يفرق بين مجتمع ، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة . يعني : لا يفرق بين ثلاثة خلطاء في عشرين ومائة شاة ، فإنما عليهم شاة ; لأنها إذا فرقت كان فيها ثلاث شياه .

ولا يجمع بين متفرق ، وهو رجل له مائة شاة وشاة ، ورجل له مائة شاة ، فإذا تركا مفترقين ، ففيهما شاتان ، وإذا جمعا ففيهما ثلاث شياه ، فالخشية خشية الساعي أن تقل الصدقة ، وخشية رب المال أن [ ص: 24 ] تكثر الصدقة .

قال : ولم أعلم مخالفا إذا كانوا ثلاثة خلطاء ، وكانت لهم مائة وعشرون شاة أخذت منهم واحدة ، وصدقوا صدقة واحد ، فنقصوا المساكين شاتين من مال الخلطاء الثلاثة الذين لو تفرق مالهم كان فيه ثلاث شياه ، لم يجز إلا أن يقولوا : لو كان أربعون بين الثلاثة كانت عليهم شاة ; لأنهم صدقوا الخلطاء صدقة الواحد ، وبهذا يقول في الماشية كلها ، والزرع .

وكان من سواه من أهل العلم ؛ منهم أبو حنيفة ، وأصحابه .

كما حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني ، عن أبيه ، عن محمد بن الحسن ، عن أبي يوسف قال : قلت لأبي حنيفة : أرأيت قوله صلى الله عليه وسلم : لا يفرق بين مجتمع ما هو ؟ قال : يكون للرجل مائة وعشرون شاة ، فيكون فيها شاة واحدة ، فإن فرقها المصدق ، فجعلها أربعين أربعين كانت فيها ثلاث شياه ، قلت: أرأيت قوله : لا يجمع بين متفرق ما هو ؟ قال : الرجلان يكون بينهما أربعون شاة ، فإن جمعها كان فيه شاة ، وإن فرقها عشرين عشرين لم يكن فيها شاة . قلت : فلو كانا شريكين متفاوضين لم يجمع بين أغنامهما ؟ قال : نعم ، لا يجمع بينهما .

ومنهم سفيان الثوري .



كما قد حدثنا أبو غسان مالك بن يحيى الهمداني ، حدثنا أبو [ ص: 25 ] النضر هاشم بن القاسم ، عن الأشجعي ، عن سفيان قال : ولا يجمع بين متفرق ، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ، والتفريق بين المجتمع : أن يكون للرجل مائة شاة ، فيكون هاهنا ، وهاهنا ، فلا يأخذه من هذه وهذه ، ولا يجمع بين متفرق : أن يكون للرجل أربعون ، وللآخر خمسون ، فيخلطاهما جميعا ; لأن لا يؤخذ منهما شاة ، وأن يكون للرجل أربعون شاة ، فيكون في الذي ذكرنا عن أبي حنيفة ، وعن الثوري ما قد دل على أنهما لم يكونا يراعيان الاختلاط ، ولكنهما كانا يراعيان الأملاك على ما ذكرناه عنهما .

وفي ذلك ما قد دل أن ما قد ذكره الشافعي من أنه لم يعلم مخالفا إذا كان ثلاثة خلطاء ، وكانت لهم مائة وعشرون شاة أخذت منهم واحدة ، وصدقوا صدقة الواحد قد كان فيه من المخالفين لذلك القول من ذكرناه ، وفي ثبوت ذلك ما دفع أن يكون لما احتج به لمذهبه من الذي ذكرناه في ذلك ما يوجب الحجة له فيه ، وكان الله تعالى قد ذكر الزكاة بمثل ما ذكر الصيام ، والصلاة ، والحج ، فقال عز وجل : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة . وقال : " فمن شهد منكم الشهر فليصمه " . وقال : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . فكان ما افترض في ذلك من هذه الأشياء ، فثبوته على كل واحد من الناس بما افترضه عليه فيه ، وفي ذلك ما قد دل على أنه لا حكم للخلطة ، فإن الحكم للأملاك دون ما سواها ، وقال تعالى : خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم . وكان معقولا أنه لا يطهر أحد من مال غيره ، إنما يطهر من مال نفسه .

[ ص: 26 ] فإن قال : فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم موصولا بهذا الكلام : وما كان من خليطين ، فإنهما يتراجعان بالسوية ؟

فكان جوابنا له في ذلك : أن يكون الرجلان لهما عشرون ومائة شاة لأحدهما ثلثاها ، وللآخر ثلثها ، فيحضر المصدق ، فيطالبهما بصدقتهما ، فلا يكون عليه انتظار قسمتها إياها بينهما ، فيأخذ منهما شاتين ، فيعلم أنه قد أخذ من حصة صاحب الثمانين : شاة وثلث شاة ، والذي كان عليه من الصدقة شاة واحدة من حصة صاحب الأربعين : ثلثي شاة ، والذي كان عليه من الصدقة شاة واحدة ، والباقي من حصة صاحب الثمانين ثمان وسبعون شاة ، وثلثا شاة ، والباقي من حصة صاحب الأربعين تسع وثلاثون شاة ، وثلث شاة ، ويكون ما أخذ من الحصتين جاز على مالكيها ، فيرجع صاحب الثمانين على صاحب الأربعين في غنمه بالثلث شاة الذي أخذ من غنمه ، عن الزكاة التي كانت على صاحبه حتى ترجع حصة صاحب الثمانين إلى تسع وسبعين ، وحصة صاحب الأربعين إلى تسع وثلاثين .

فأما مالك ، فإن مذهبه في ذلك

:

ما قد حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وهب قال : قال مالك : تفسير قول عمر : لا يفرق بين مجتمع . أن يكون الخليطان لكل واحد منهما مائة شاة ، فإذا طلبهما المصدق ، فرقا غنمهما ، فلم يكن على واحد منهما إلا شاة واحدة ، فنهي عن ذلك قال ذلك في الخليطين إذا كان الراعي واحدا ، والفحل واحدا ، والمسرح واحدا ، والمراح واحدا ، والدلو واحدا ، فالرجلان خليطان ، فلا تجب الصدقة على الخليط حتى يكون [ ص: 27 ] لكل واحد منهما ما تجب فيه الصدقة ، وتفسير ذلك : أنه إذا كان لأحد الخليطين أربعون شاة ، وللآخر أقل من أربعين لم يكن على الذي له أقل من أربعين شاة صدقة ، وكانت الصدقة على الذي له أربعون ، وإن كان لكل واحد منهما ألف شاة ، أو أقل من ذلك مما تجب فيه الصدقة ، وللآخر أربعون شاة ، أو أكثر ، فهما خليطان يترادان الفضل بينهما بالسوية على الألف بحصتها ، وعلى الأربعين بحصتها .

يعني : من الزكاة التي تجب فيها لو كانت لواحد ، وهذا مما لا إشكال فيه ؛ لأنه لا يخلو من أحد وجهين : أن تكون الخلطة لا معنى لها ، ويكون الخليطان بعدها كما كانا قبلها ، فيكون على كل واحد منهما في غنمه ما يكون عليه فيها لو لم يكن بينه وبين غيره فيها خلطة ، فيكون الأمر في ذلك كما قال أبو حنيفة ، ثم رجع إلى ما ذكره الشافعي في الخليطين أنهما ، وإن عرف كل واحد منهما ماله بعد أن يكون الفحل واحدا ، والمسرح واحدا ، والسقي واحدا ، أنهما يكونان بذلك خليطين ، فكان هذا مما لا يعقله ، وكيف يكونان خليطين وكل واحد منهما بائن ماله من مال الآخر .

فإن قال : بالخلطة في الفحول ، وفي المسرح ، وفي الأشياء التي ذكرها قيل له : وهل الزكاة في تلك الأشياء ؟ إنما الزكاة في المواشي نفسها ، وليسا بخليطين فيها ، وقد تقدمك وتقدمنا من أهل العلم من قد خالف ما ذهبت إليه .

[ ص: 28 ] كما حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، حدثنا أبو عاصم النبيل ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن طاووس قال : إذا كان الخليطان يعرفان أموالهما ، فلا يجمع بينهما في الصدقة ، وأخبرت بذلك عطاء ، فقال : ما أراه إلا حقا .

فهذا طاووس ، وعطاء لم يراعيا فحلا ، ولا حلبا ، ولا سقيا ، ولا مراحا ، ولا دلوا ، ولا ما سوى ذلك مما راعيته أنت ، مما ذكرناه عنك .

فإن قال : فما رويته عن طاووس ، وعطاء يجب به إذا كانا خليطين لا يعرفان أموالهما ، جمع بينهما في الصدقة ، وفي ذلك ما قد دل على ما نقوله نحن .

قيل له : ليس في ذلك ما يدل على ما قلته أنت ; لأنه قد يحتمل أن يكون قوله : جمع بينهما في الصدقة أي جمع بينهما قبضا [ ص: 29 ] حتى يؤخذا أخذا واحدا ، ثم يتراجعان بينهما في المأخوذ منهما كما يقول مخالفك فيه ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية