الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 518 ]

                          عود إلى الاحتجاج على بطلان مذهب اللفظ


                          مشرق في جوانب السمع ما يخلقه عوده على المستعيد

                              حجج تخرس الألد بألفاظ
                          فرادى كالجوهر المعدود

                              ومعان لو فصلتها القوافي
                          هجنت شعر جرول ولبيد

                              جزن مستعمل الكلام اختيارا
                          وتجنبن ظلمة التعقيد

                              وركبن اللفظ القريب فأدركن
                          به غاية المراد البعيد

                              كالعذارى غدون في الحلل الصفر
                          إذا رحن في الخطوط السود



                          عرضه من ذكر وصف الشعراء الشعر وأنه يدرك بالعقل لا بمذاقة الحروف

                          604- الغرض من كتب هذه الأبيات الاستظهار، حتى إن حمل حامل نفسه على الغرر والتقحم على غير بصيرة، فزعم أن الإعجاز في مذاقة الحروف، وفي سلامتها مما يثقل على اللسان علم بالنظر فيها فساد ظنه وقبح غلطه، من حيث يرى عيانا أن ليس كلامهم كلام من خطر ذلك منه ببال، ولا صفاتهم صفات تصلح له على حال، إذ لا يخفى على عاقل أن لم يكن ضرب [ ص: 519 ] " تميم " لحزون جبال الشعر لأن تسلم ألفاظه من حروف تثقل على اللسان ولا كان تقويم " عدي " لشعره وتشبيهه نظره فيه بنظر المثقف في كعوب قناته لذلك- وأنه محال أن يكون له جعل " بشار " نور العين قد غاض فصار إلى قلبه، وأن يكون اللؤلؤ الذي كان لا ينام عن طلبه وأن ليس هو صوب العقول الذي إذا " انجلت سحائب منه أعقبت بسحائب " وأن ليس هو " الدر والمرجان " مؤلفا بالشذر في العقد- ولا الذي له كان " البحتري " مقدرا " تقدير داود في السرد " . كيف؟ وهذه كلها عبارات عما يدرك بالعقل ويستنبط بالفكر، وليس الفكر الطريق إلى تمييز ما يثقل على اللسان مما لا يثقل إنما الطريق إلى ذلك الحس .

                          605- ولولا أن البلوى قد عظمت بهذا الرأي الفاسد، وأن الذين قد استهلكوا فيه قد صاروا من فرط شغفهم به يصغون إلى كل شيء يسمعونه ، حتى لو أن إنسانا قال : " باقلي حار " يريهم أنه يريد نصرة مذهبهم لأقبلوا بأوجههم عليه وألقوا أسماعهم إليه- لكان اطراحه وترك الاشتغال به أصوب، لأنه قول لا يتصل منه جانب بالصواب البتة .

                          ذاك لأنه أول شيء يؤدي إلى أن يكون القرآن معجزا لا بما به كان قرآنا وكلام الله عز وجل، لأنه على كل حال إنما كان قرآنا وكلام الله عز وجل بالنظم الذي هو عليه . ومعلوم أن ليس " النظم " من مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان في شيء .

                          [ ص: 520 ] ثم إنه اتفاق من العقلاء أن الوصف الذي به تناهى القرآن إلى حد عجز عنه المخلوقون، هو الفصاحة والبلاغة . وما رأينا عاقلا جعل القرآن فصيحا أو بليغا بأن لا يكون في حروفه ما يثقل على اللسان، لأنه لو كان يصح ذلك، لكان يجب أن يكون السوقي الساقط من الكلام، والسفساف الرديء من الشعر، فصيحا إذا خفت حروفه .

                          606- وأعجب من هذا، أنه يلزم منه أن لو عمد عامد إلى حركات الإعراب فجعل مكان كل ضمة وكسرة فتحة فقال : " الحمد لله " بفتح الدال واللام والهاء، وجرى على هذا في القرآن كله، أن لا يسلبه ذلك الوصف الذي هو معجز به، بل كان ينبغي أن يزيد فيه، لأن الفتحة كما لا يخفى أخف من كل واحدة من الضمة والكسرة .

                          فإن قال : إن ذلك يحيل المعنى .

                          قيل له : إذا كان المعنى والعلة في كونه معجزا خفة اللفظ وسهولته، فينبغي أن يكون مع إحالة المعنى معجزا ، لأنه إذا كان معجزا لوصف يخص لفظه دون معناه، كان محالا أن يخرج عن كونه معجزا، مع قيام ذلك الوصف فيه .

                          بيان أن قولهم في اللفظ يسقط " الكناية " و " الاستعارة " و " التمثيل " و " المجاز " و " الإيجاز "

                          607- ودع هذا وهب أنه لا يلزم شيء منه . فإنه يكفي في الدلالة على سقوطه وقلة تمييز القائل به أنه يقتضي إسقاط " الكناية " و " الاستعارة " و " التمثيل " و " المجاز " و " الإيجاز " جملة واطراح جميعها رأسا مع أنها الأقطاب التي تدور البلاغة عليها، والأعضاد التي تستند الفصاحة إليها، والطلبة التي يتنازعها المحسنون، والرهان الذي تجرب فيه الجياد، والنضال الذي تعرف به الأيدي الشداد، وهي التي نوه بذكرها البلغاء، ورفع من أقدارها العلماء، [ ص: 521 ] وصنفوا فيها الكتب ووكلوا بها الهمم وصرفوا إليها الخواطر، حتى صار الكلام فيها نوعا من العلم مفردا، وصناعة على حدة ولم يتعاط أحد من الناس القول في الإعجاز إلا ذكرها وجعلها العمد والأركان فيما يوجب الفضل والمزية وخصوصا " الاستعارة " و " الإيجاز " . فإنك تراهم يجعلونهما عنوان ما يذكرون وأول ما يوردون.

                          وتراهم يذكرون من الاستعارة قوله عز وجل : « واشتعل الرأس شيبا » [سورة مريم: 4 ] وقوله : « وأشربوا في قلوبهم العجل » [ سورة البقرة : 93 ] وقوله عز وجل : « وآية لهم الليل نسلخ منه النهار » [ سورة يس : 93 ] وقوله عز وجل : « فاصدع بما تؤمر » [ سورة الحجر : 94 ] وقوله : « فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا » [ سورة يوسف : 8 ] وقوله تعالى : « حتى تضع الحرب أوزارها » [ سورة محمد : 4 ] وقوله : « فما ربحت تجارتهم » [ سورة البقرة : 16 ].

                          ومن " الإيجاز " قوله تعالى : « وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء » [ سورة الأنفال : 58 ] وقوله تعالى : « ولا ينبئك مثل خبير » [ سورة فاطر : 14 ] وقوله : « فشرد بهم من خلفهم » سورة الأنفال : 57 ] . وتراهم على لسان واحد في أن " المجاز " و " الإيجاز " من الأركان في أمر الإعجاز .

                          608- وإذا كان الأمر كذلك عند كافة العلماء الذين تكلموا في المزايا التي للقرآن، فينبغي أن ينظر في أمر الذي يسلم نفسه إلى الغرور، فيزعم أن الوصف الذي كان له القرآن معجزا هو سلامة حروفه مما يثقل على اللسان ، [ ص: 522 ] أيصح له القول بذلك إلا من بعد أن يدعي الغلط على العقلاء قاطبة فيما قالوه، والخطأ فيما أجمعوا عليه؟ وإذا نظرنا وجدناه لا يصح له ذلك إلا بأن يقتحم هذه الجهالة . اللهم إلا أن يخرج إلى الضحكة فيزعم مثلا أن من شأن " الاستعارة " و " الإيجاز " إذا دخلا الكلام أن يحدث بهما في حروفه خفة، وتتجدد فيها سهولة . ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق .

                          واعلم أنا لا نأبى أن تكون مذاقة الحروف وسلامتها مما يثقل على اللسان داخلا فيما يوجب الفضيلة، وأن تكون مما يؤكد أمر الإعجاز ، وإنما الذي ننكره ونفيل رأي من يذهب إليه أن يجعله معجزا به وحده، ويجعله الأصل والعمدة، فيخرج إلى ما ذكرنا من الشناعات .

                          بيان آخر في شأن " اللفظ " وفساد القول به

                          610- ثم إن العجب كل العجب ممن يجعل كل الفضيلة في شيء هو إذا انفرد لم يجب به فضل البتة، ولم يدخل في اعتداد بحال . وذلك أنه لا يخفى على عاقل أنه لا يكون بسهولة الألفاظ وسلامتها مما يثقل على اللسان، اعتداد حتى يكون قد ألف منها كلام . ثم كان ذلك الكلام صحيحا في نظمه والغرض الذي أريد به . وأنه لو عمد عامد إلى ألفاظ فجمعها من غير أن يراعي فيها معنى ويؤلف منها كلاما، لم تر عاقلا يعتد السهولة فيها فضيلة . لأن الألفاظ لا تراد لأنفسها، وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني . فإذا عدمت الذي له تراد، أو اختل أمرها فيه لم يعتد بالأوصاف التي تكون في أنفسها عليها، وكانت السهولة وغير السهولة فيها واحدا .

                          [ ص: 523 ] ومن هاهنا رأيت العلماء يذمون من يحمله تطلب السجع والتجنيس على أن يضيم لهما المعنى ويدخل الخلل عليه من أجلهما، وعلى أن يتعسف في الاستعارة بسببهما، ويركب الوعورة ويسلك المسالك المجهولة، كالذي صنع أبو تمام في قوله :


                          سيف الإمام الذي سمته هييته     لما تخرم أهل الأرض مخترما


                          قرت بقران عين الدين وانتشرت     بالأشترين عيون الشرك فاصطلما



                          وقوله :


                          ذهبت بمذهبه السماحة والتوت     فيه الظنون أمذهب أم مذهب



                          ويصنعه المتكلفون في الأسجاع، وذلك أنه لا يتصور أن يجب بهما، ومن حيث هما فضل ويقع بهما مع الخلو من المعنى اعتداد . وإذا نظرت إلى تجنيس أبي تمام : " أمذهب أم مذهب " فاستضعفته وإلى تجنيس القائل :


                          حتى نجا من خوفه وما نجا



                          وقول المحدث :


                          ناظراه فيما جنى ناظراه     أو دعاني أمت بما أودعاني



                          [ ص: 524 ]

                          فاستحسنته لم تشك بحال أن ذلك لم يكن لأمر يرجع إلى اللفظ، ولكن لأنك رأيت الفائدة ضعفت في الأول وقويت في الثاني . وذلك أنك رأيت أبا تمام لم يزدك ب " مذهب " و " مذهب " على أن أسمعك حروفا مكررة لا تجد لها فائدة - إن وجدت - إلا متكلفة متمحلة . ورأيت الآخر قد أعاد عليك اللفظة كأنه يخدعك عن الفائدة وقد أعطاها . ويوهمك أنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها . ولهذه النكتة كان التجنيس وخصوصا المستوفى منه، مثل : " نجا و " نجا " من حلي الشعر، والقول فيما يحسن وفيما لا يحسن من التجنيس والسجع يطول ، ولم يكن غرضنا من ذكرهما شرح أمرهما ولكن توكيد ما انتهى بنا القول إليه من استحالة أن يكون الإعجاز في مجرد السهولة وسلامة الألفاظ مما يثقل على اللسان .

                          611- وجملة الأمر، أنا ما رأينا في الدنيا عاقلا اطرح النظم والمحاسن التي هو السبب فيها من " الاستعارة " و " الكناية " و " التمثيل " وضروب " المجاز " و " الإيجاز " وصد بوجهه عن جميعها وجعل الفضل كله والمزية أجمعها في سلامة الحروف مما يثقل. كيف؟ وهو يؤدي إلى السخف والخروج من العقل كما بينا .

                          612- واعلم أنه قد آن لنا أن نعود إلى ما هو الأمر الأعظم والغرض الأهم، والذي كأنه هو الطلبة، وكل ما عداه ذرائع إليه، وهو المرام وما سواه أسباب للتسلق عليه . وهو بيان العلل التي لها وجب أن يكون لنظم مزية على نظم، وأن يعظم أمر التفاضل فيه كلايويتناهى إلى الغايات البعيدة . ونحن نسأل الله تعالى العون على ذلك، والتوفيق له والهداية إليه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية