الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              86 (باب لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)

                                                                                                                              وترجمه النووي بقوله: «باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، ونفيه عن المتلبس بالمعصية، على إرادة نفي كماله» ، [ ص: 198 ] (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 41-42-44-45 جـ2 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن» ، وكان أبو هريرة يلحق معهن : «ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» .] وفي حديث همام «يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن» وزاد «ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم» .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن. ولا يرى السارق حين يسرق، وهو مؤمن. ولا يشرب الخمر حين يشربها، وهو مؤمن. وكان أبو هريرة يلحق معهن: «ولا ينتهب نهبة ) ، بضم النون «ذات شرف» ، أي: ذات قدر عظيم. وقيل: ذات استشراف) .

                                                                                                                              وروي بالسين المهملة: ومعناه معناه.

                                                                                                                              (يرفع الناس إليه فيها أبصارهم ) ؛ أي يستشرف الناس لها، ناظرين إليها، رافعين أبصارهم. (حين ينتهبها وهو مؤمن ) . [ ص: 199 ] وفي حديث همام «يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو «حين ينتهبها، مؤمن» .

                                                                                                                              وزاد في رواية «ولا يغل أحدكم حين يغل» بفتح الياء وضم الغين وتشديد اللام ورفعها. وهو من «الغلول» وهو الخيانة (وهو مؤمن فإياكم إياكم ) .

                                                                                                                              هكذا هو في الروايات مرتين. ومعناه: احذروا احذروا. يقال: «إياك وفلانا، أي: احذره. ويقال: «إياك» من غير ذكر «فلان» أي: احذر كما وقع هنا.

                                                                                                                              واختلف في معنى هذا الحديث.

                                                                                                                              فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان. وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد به نفي كماله ومختاره. كما يقال: لا علم إلا ما نفع. ولا مال إلا الإبل. ولا عيش إلا عيش الآخرة.

                                                                                                                              وإنما تأولناه على ذلك لما في حديث أبي ذر وغيره «من قال «لا إله إلا الله دخل الجنة» وإن زنا وإن سرق» ، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور «أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا» الحديث.

                                                                                                                              ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: «فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه.

                                                                                                                              [ ص: 200 ] فهذان الحديثان، مع نظائرهما في الصحيح، مع قول الله عز وجل: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) .

                                                                                                                              مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك، لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصوا الإيمان. إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة ؟.

                                                                                                                              وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة، مستعمل فيها كثير، وإذا ورد حديثان، مختلفان ظاهرا، وجب الجمع بينهما. وقد وردا «هنا» ، فيجب الجمع؛ وقد جمعنا:

                                                                                                                              وتأول بعض أهل العلم هذا الحديث: «على من فعل ذلك مستحلا له، مع علمه بورود الشرع بتحريمه» .

                                                                                                                              وقال الحسن وابن جرير الطبري: معناه: ينزع منه «اسم المدح» الذي يسمى به أولياء الله «المؤمنين» ، ويستحق «اسم الذم» ، فيقال: سارق؛ وزان؛ وفاجر، وفاسق.

                                                                                                                              وعن ابن عباس: معناه: «ينزع منه نور الإيمان» وفيه حديث مرفوع.

                                                                                                                              وقال المهلب: ينزع منه بصيرته في طاعة الله تعالى» .

                                                                                                                              قلت: ولا مانع من إرادة الجميع والله أعلم.

                                                                                                                              [ ص: 201 ] وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها، ويمر على ما جاءت، ولا يخاض في معناها، وإنا لا نعلم معناها، وقال: أمروها كما أمرها من قبلكم.

                                                                                                                              قال النووي: وقيل في معنى الحديث غير ما ذكرته؛ مما ليس بظاهر، بل بعضها غلط فتركها.

                                                                                                                              وهذه الأقوال التي ذكرتها في تأويله كلها محتملة.

                                                                                                                              والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه.

                                                                                                                              وفي رواية «والتوبة معروضة بعد» وهذا ظاهر، وقد أجمع العلماء على قبول التوبة ما لم يغرغر كما جاء في الحديث.

                                                                                                                              «والتوبة» ، أن يقلع عن المعصية، ويندم على فعلها، ويعزم أن لا يعود إليها.

                                                                                                                              فإن تاب من ذنب ثم عاد إليه لم تبطل توبته. وإن تاب من ذنب وهو متلبس بآخر صحت توبته؛ هذا مذهب أهل الحق.

                                                                                                                              وخالفت المعتزلة في المسألتين.

                                                                                                                              قال عياض: أشار بعض العلماء إلى أن ما في هذا الحديث تنبيه على جميع أنواع المعاصي، والتحذير منها؛

                                                                                                                              فنبه «بالزنا» على جميع الشهوات.

                                                                                                                              «وبالسرقة» ، على الرغبة في الدنيا والحرص على الحرام.

                                                                                                                              [ ص: 202 ] «وبالخمر» على جميع ما يصد عن الله تعالى ويوجب الغفلة عن حقوقه «وبالانتهاب» على الاستخفاف بعباد الله، وترك توقيرهم، والحياء منهم، وجمع الدنيا من غير وجهها، والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية