الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما نهى عن اتباع السبل لأنها سبب التفرق عن الحق ، وكان قد كرر في هذه السورة نصب الحجج وإنارة الأدلة وإزاحة الشكوك ومحو آثار الشبه ، وأشرفت السورة على الانقضاء . وكان من المعلوم قطعا أن الحق - من حيث هو حق - شديد التأثير في إزهاق الباطل فكيف إذا كان كلام الملك الذي لا يخالف أمره ولا يخرج عن إرادته - اشتد استشراف النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى رؤية ذلك الأثر مع ما عنده من الحرص على إسلام قومه لما طبعه الله عليه من الشفقة على جميع الخلق عموما وعليهم خصوصا ، وإنما يكون ذلك الأثر بإيجاد هدايتهم ومحو غوايتهم ، فلما ختم - سبحانه - بهذين التهديدين العظيمين الدالين على غشاوتهم - فإنه - صلى الله عليه وسلم - مما كان رجاه من هدايتهم أمر كأنه كان قد حصل ، وذلك مورث للشفوق من الأسف على ما لا يدري قدره ولا يوصف خبره ، فثبته - سبحانه - وسلاه بقوله : إن الذين فرقوا أي : بعد إبلاغك إياهم دينهم أي : بتكذيبهم ببعض آيات الله وصدوفهم عنها وإيمانهم ببعضها ففارقوه ؛ لأن الكفر بعضه كفر بكله ، وأضيف الدين إليهم لشدة رغبتهم فيه ومقاتلتهم عليه [ ص: 335 ] وكانوا شيعا كل فرقة تشايع وتشيع إمامها كالعرب الذين تحزبوا أحزابا بالاستكثار من الأصنام ، فكان في كل قطر لهم معبود أو اثنان فأكثر ، وكأهل الكتاب الذين ابتدعوا في دينهم بدعا أوصلتهم إلى تكفير بعضهم بعضا وآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض ، وكالمجوس الذين مزقوا دينهم باعتقاد أن الإله اثنان : النور والظلمة ، وعبدوا الأصنام والنجوم وجعلوا لكل نجم صنما يتوسل به - في زعمهم - إليه لست منهم أي : من حسابهم ولا من عقابهم ولا من خلق الهداية في قلوبهم في شيء وفي هذا غاية الحث على الاجتماع ونهاية التوعد على الافتراق .

                                                                                                                                                                                                                                      . ولما خفف عنه - صلى الله عليه وسلم - بتبرئته منهم ، أسند إلى نفسه المقدس ما يحق له في إحاطة علمه وقدرته ، فقال جوابا لمن يقول : فإلى من يكون أمرهم؟ : إنما أمرهم أي : في ذلك كله وفي كل ما يتعلق بهم مما لا يحصره حد ولا يحصيه عد إلى الله أي : الملك الذي لا أمر لأحد معه غيره ، فمن شاء هداه ومن شاء أعماه ، ومن شاء أهلكه ومن شاء أبقاه لأن له كمال العظمة .

                                                                                                                                                                                                                                      . ولما كان الحشر متراخيا عن ذلك كله في الرتبة وفي الزمان ، لا تبلغ كنه عظمته العقول - نبه على ذلك بالتعبير بأداة التراخي والتنبيه [ ص: 336 ] بقوله : ثم بعد استيفاء ما ضرب لهم من الآجال ينبئهم أي : تنبئة عظيمة جليلة مستقصاة بعد أن يحشرهم إليه داخرين بما كانوا أي : جبلة وطبعا يفعلون أي : من تلك الأشياء القبيحة التي كان لهم إليها أتم داعية غير متوقفين في إصدارها على علم مع ادعاء التدين بها ، والآية - مع ما تقدم من مقتضياتها - تعليل لقوله : ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية