الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        الطرف الثاني : في المضمون ، قال الأصحاب رحمهم الله : المضمون هو المعصوم ، وهو قسمان :

                                                                                                                                                                        أحدهما : ما ليس بمال ، وهو الأحرار ، فيضمنون بالجناية على النفس والطرف ، بالمباشرة تارة ، وبالتسبب أخرى ، وتفصيله في كتاب الديات .

                                                                                                                                                                        الثاني : ما هو مال ، وهو نوعان : أعيان ، ومنافع . والأعيان ضربان : حيوان وغيره . والحيوان صنفان : آدمي وغيره .

                                                                                                                                                                        أما الآدمي : فيضمن النفس والطرف من الرقيق بالجناية كما يضمن الحر ، ويضمن أيضا باليد العادية . وبدل نفسه : قيمته بالغة ما بلغت ، سواء قتل أو تلف تحت اليد العادية . وأما الأطراف والجراحات ، فما كان منها لا يتقدر واجبه في الحر فواجبه في الرقيق ما نقص من قيمته ، سواء حصل بالجناية أو فات تحت اليد العادية ، وما كان مقدرا في الحر ، ينظر ، إن حصل بجناية ، فقولان : الجديد الأظهر : أنه يتقدر من الرقيق أيضا ، والقيمة في حقه كالدية في حق الحر ، فيجب في يد العبد نصف قيمته ، كما يجب في يد الحر نصف ديته ، وعلى هذا القياس . والقديم : الواجب ما نقص من قيمته كسائر الأموال . وأما ما يتلف تحت اليد العادية ، كمن غصب عبدا فسقطت يده بآفة سماوية ، فالواجب فيه ما ينقص على الصحيح . وفي وجه : إن كان النقص أقل من المقدر وجب ما يجب على الجاني ، فعلى [ ص: 13 ] الجديد : لو قطع الغاصب المغصوب ، لزمه أكثر الأمرين من نصف القيمة والأرش . ولو قطع يديه ، فعليه كمال القيمة . وكذا لو قطع أنثييه فزادت قيمته . ولو كان الناقص بقطع الغاصب ثلثي قيمته وجب ثلثا قيمته على القولين .

                                                                                                                                                                        أما على القديم فلأنه قدر النقص . وأما على الجديد ، فالنصف بالجناية ، والسدس باليد العادية . ولو كان النقص بسقوط اليد بآفة ثلث القيمة فهو الواجب على القديم ، وكذا على الجديد تفريعا على الصحيح ، وعلى الوجه الآخر : الواجب نصف قيمته . والمكاتب ، والمستولدة ، والمدبر ، حكمهم في الضمان حكم القن .

                                                                                                                                                                        الصنف الثاني : غير الآدمي من الحيوان ، فيجب فيه باليد والجناية قيمته ، وفي ما تلف من أجزائه ما نقص من قيمته ، ويستوي فيه الخيل ، والإبل ، والحمير ، وغيرها .

                                                                                                                                                                        الضرب الثاني : غير الحيوان ، وهو منقسم إلى مثلي ومتقوم ، وسيأتي ضبطهما وحكمهما في الطرف الثالث إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        النوع الثاني : المنافع ، وهي أصناف .

                                                                                                                                                                        منها : منافع الأموال من العبيد والثياب والأرض وغيرها ، وهي مضمونة بالتفويت . والفوات تحت اليد العادية ، فكل عين لها منفعة تستأجر لها ، يضمن منفعتها إذا بقيت في يده مدة لها أجرة حتى لو غصب كتابا وأمسكه مدة وطالعه ، أو مسكا فشمه ، أو لم يشمه لزمه أجرته . ولو كان العبد المغصوب يعرف صنائع ، لزمه أجرة أعلاها أجرة ، ولا يلزمه أجر الجميع . ولو استأجر عينا لمنفعة ، فاستعملها في غيرها ، ضمنها .

                                                                                                                                                                        قلت : ذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه ، أنه لو غصب أرضا ولم يزرعها ، وهي مما تنقص بترك الزرع كأرض البصرة وشبهها فإنها إذا لم تزرع نبت فيها [ ص: 14 ] الدغل والحشيش ، كان عليه رد الحشيش وأجرة الأرض ، ولم يذكر القاضي أرش النقص . والظاهر : أنه يجب . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        ومنها : منفعة البضع ، فلا تضمن بالفوات تحت اليد ، لأن اليد لا تثبت عليها ، ولهذا يزوج السيد المغصوبة ، ولا يؤجرها ، كما لا يبيعها ، وكذا لو تداعى رجلان نكاح امرأة ، ادعيا عليها ، ولا يدعي كل واحد منهما على الآخر وإن كانت عنده . وإذا أقرت لأحدهما حكم بأنها زوجه ، وذلك يدل على أن اليد لها ، ولأن منفعة البضع تستحق استحقاق ارتفاق للحاجة وسائر المنافع تستحق استحقاق ملك تام . ولهذا من ملك منفعة بالاستئجار ، ملك نقلها إلى غيره بعوض أو بغيره ، والزوج لا يملك نقل منفعة البضع . فأما إذا فوت منفعة البضع بالوطء فيضمن مهر المثل ، وسيأتي تفريعه في الفصل الثالث من الباب الثاني إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                                                        ومنها : منفعة بدن الحر ، وهي مضمونة بالتفويت . فإذا قهر حرا وسخره في عمل ، ضمن أجرته . وإن حبسه وعطل منافعه ، لم يضمنها على الأصح ، لأن الحر لا يدخل تحت اليد ، فمنافعه تفوت تحت يده ، بخلاف المال ، وقال ابن أبي هريرة : يضمنها ، ويقرب من الوجهين الخلاف في صورتين . إحداهما : لو استأجر حرا وأراد أن يؤجره ، هل له ذلك ؟ والثانية : إذا أسلم الحر المستأجر نفسه ، ولم يستعمله المستأجر إلى انقضاء المدة التي استأجره فيها ، هل تتقرر أجرته ؟ قال الأكثرون : له أن يؤجره ، وتتقرر أجرته . وقال القفال : لا يؤجره ولا تتقرر أجرته ، لأن الحر لا يدخل تحت اليد ، ولا تحصل منافعه في يد المستأجر ، ويدخل في ضمانه إلا عند وجودها ، هكذا ذكر الأصحاب

                                                                                                                                                                        [ توجيه ] الخلاف في المسائل الثلاث ، ولم يجعلوا دخول الحر تحت اليد مختلفا فيه ، بل اتفقوا على عدمه ، ولكن من جوز إجارة [ ص: 15 ] المستأجر ، وقرر الأجرة ، بنى الأمر على الحاجة والمصلحة ، وجعل الغزالي الخلاف في المسائل مبنيا على التردد في دخوله تحت اليد ولم نر ذلك لغيره .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        في دخول ثياب الحر في ضمان من استولى عليه ، تفصيل مذكور في كتاب السرقة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال المتولي : لو نقل حرا صغيرا أو كبيرا بالقهر إلى موضع ، فإن لم يكن له غرض في الرجوع إلى الموضع الأول ، فلا شيء عليه . وإن كان واحتاج إلى مؤنة ، فهي على الناقل ، لتعديه .

                                                                                                                                                                        ومنها : منفعة الكلب ، فمن غصب كلب صيد أو حراسة ، لزمه رده مع مؤنة الرد إن كان له مؤنة ، وهل تلزمه أجرة منفعته ؟ وجهان ، بناء على جواز إجارته . وفيما اصطاده الغاصب بالكلب المغصوب ، وجهان . أحدهما : للمالك ، كصيد العبد وكسبه . وأصحهما : للغاصب ، كما لو غصب شبكة أو قوسا واصطاد بهما ، فإنه للغاصب . ويجري الوجهان ، فيما لو اصطاد بالبازي والفهد المغصوبين ، وحيث كان الصيد للغاصب ، لزمه أجرة مثل المغصوب ، وحيث كان للمالك كصيد العبد ، ففي وجوب الأجرة لزمن الاصطياد وجهان . أصحهما : الوجوب ، لأنه ربما كان يستعمله في شغل آخر .

                                                                                                                                                                        قلت : والوجهان فيما إذا لم تنقص قيمة الصيد عن الأجرة ، فإن نقصت وجب الناقص قطعا . والله أعلم . [ ص: 16 ]

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        المغصوب ، إذا دخله نقص ، هل يجب أرشه مع الأجرة ؟ نظر ، إن كان النقص بسبب غير الاستعمال ، بأن غصب ثوبا أو عبدا ، فنقصت قيمته بآفة سماوية كسقوط عضو العبد بمرض ، وجب الأرش مع الأجرة ، ثم الأجرة الواجبة لما قبل حدوث النقص أجرة مثله سليما ، ولما بعده أجرة مثله معيبا . وإن كان النقص بسبب الاستعمال ، بأن لبس الثوب فأبلاه ، فوجهان . أصحهما : يجبان ، والثاني : لا يجب إلا أكثر الأمرين من أجرة المثل وأرش النقص .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        سيأتي إن شاء الله تعالى ، أن العبد المغصوب إذا تعذر رده بآفة ، غرم الغاصب قيمته للحيلولة ، وتلزمه مع ذلك أجرة المثل للمدة الماضية قبل بذل القيمة ، وفيما بعدها ، وجهان . أصحهما : الوجوب ، لبقاء حكم الغصب . ويجري الوجهان في أن الزوائد الحاصلة بعد دفع القيمة ، هل تكون مضمونة على الغاصب ؟ وفي أنه هل يلزمه مؤنة ردها ؟ وفي أن جناية الآبق في إباقه ، هل يتعلق ضمانها بالغاصب ؟ ولو غيب الغاصب المغصوب إلى مكان بعيد ، وعسر رده ، وغرم القيمة ، قال الإمام : وطرد شيخي في هذه الصورة الخلاف في الأحكام المذكورة ، ومنهم من قطع بوجوب الأجرة وثبوت سائر الأحكام . والفرق أنه إذا غيبه باختياره ، فهو باق في يده وتصرفه ، فلا ينقطع عنه الضمان . [ ص: 17 ]

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        الخمر والخنزير ، لا يضمنان

                                                                                                                                                                        [ لا ] لمسلم ولا لذمي ، سواء أراق حيث تجوز الإراقة أم حيث لا تجوز ، ثم خمور أهل الذمة لا تراق إلا إذا تظاهروا بشربها أو بيعها ، ولو غصب منهم والعين باقية وجب ردها ، وإن غصبت من مسلم وجب ردها إن كانت محترمة ، وإن لم تكن محترمة لم يجب ، بل تراق .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        آلات الملاهي كالبربط والطنبور وغيرهما ، وكذا الصنم والصليب ، لا يجب في إبطالها شيء ، لأنها محرمة الاستعمال ، ولا حرمة لتلك الصنعة . وفي الحد المشروع في إبطالها وجهان . أحدهما : تكسر وترضض حتى تنتهي إلى حد لا يمكن اتخاذ آلة محرمة منها لا الأولى ولا غيرها . وأصحهما : لا تكسر الكسر الفاحش لكن تفصل . وفي حد التفصيل وجهان . أحدهما : قدر لا يصلح معه للاستعمال المحرم ، حتى إذا رفع وجه البربط وبقي على صورة قصعة كفى ، والثاني : أن يفصل إلى حد

                                                                                                                                                                        [ حتى ] لو فرض اتخاذ آلة محرمة من مفصلها لنال الصانع التعب الذي يناله في ابتداء الاتخاذ ، وهذا بأن يبطل تأليف الأجزاء كلها حتى تعود كما كانت قبل التأليف ، وهذا أقرب إلى كلام الشافعي رضي الله عنه وجماهير الأصحاب . ثم ما ذكرناه من الاقتصار على تفصيل الأجزاء ، هو فيما إذا تمكن المحتسب منه ، أما [ ص: 18 ] إذا منعه من في يده ودافعه عن المنكر فله إبطاله بالكسر قطعا . وحكى الإمام اتفاق الأصحاب على أن قطع الأوتار لا يكفي لأنها مجاورة لها منفصلة . ومن اقتصر في إبطالها على الحد المشروع ، فلا شيء عليه . ومن جاوزه ، فعليه التفاوت بين قيمتها مكسورة بالحد المشروع وبين قيمتها منتهية إلى الحد الذي أتى به . وإن أحرقها فعليه قيمتها مكسورة الحد المشروع .

                                                                                                                                                                        قلت : قال الغزالي في " البسيط " : أجمعوا على أنه لا يجوز إحراقها ، لأن رضاضها متمول . ومما يتعلق بهذا الفصل ، أن الرجل والمرأة والعبد والفاسق والصبي المميز يشتركون في جواز الإقدام على إزالة هذا المنكر وسائر المنكرات ، ويثاب الصبي عليها كما يثاب البالغ ، ولكن إنما تجب إزالته على المكلف القادر . قال الغزالي في " الإحياء " : وليس لأحد منع الصبي من كسر الملاهي وإراقة الخمور وغيرهما من المنكرات ، كما ليس له منع البالغ ، فإن الصبي وإن لم يكن مكلفا ، فهو من أهل القرب ، وليس هذا من الولايات ، ولهذا يجوز للعبد والمرأة وآحاد الرعية ، وسيأتي ذلك مبسوطا مع ما يتعلق به في كتاب " السير " إن شاء الله تعالى . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية