الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                        554 [ ص: 324 ] ( 13 ) باب الحسبة في المصيبة

                                                                                                                        515 - مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار ، إلا تحلة القسم " .

                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                        11710 - هذا الإسناد من أجود أسانيد الآحاد .

                                                                                                                        11711 - وفي هذا الحديث على حسب ما قيده مالك ( رحمه الله ) في ترجمته من ذكر الحسبة ، وهي الصبر والاحتساب والرضا والتسليم أن المسلم تكفر خطاياه ويغفر له ذنوبه بالصبر على مصيبته . ولذلك خرج عن النار فلم تمسه .

                                                                                                                        11712 - وقد ذكرنا في ( التمهيد ) أحاديث تعضد هذا المعنى وتشده منها .

                                                                                                                        11713 - حديث أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث ، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم " .

                                                                                                                        [ ص: 325 ] 11714 - ذكر في الحديث لم يبلغوا الحنث ، يعني لم يبلغوا أن تجري عليهم الأقلام بالسيئات .

                                                                                                                        11715 - فإذا كان الآباء يدخلون الجنة بفضل رحمة الله لأطفالهم ، دل على أن أطفال المسلمين في الجنة ، لأنه يستحيل أن يرحموا من أجل من ليس بمرحوم . ألا ترى إلى قوله " بفضل رحمته إياهم " .

                                                                                                                        11716 - وعلى هذا جمهور علماء المسلمين إلا المجبرة ، فإنهم يقولون هم في المشيئة .

                                                                                                                        11717 - وشهد بهذا ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إني مكاثر بكم الأمم حتى بالسقط يظل محبنطئا يقال له : ادخل الجنة ، فيقول : لا حتى يدخلها أبواي ، فيقال له : ادخل الجنة أنت وأبواك " .

                                                                                                                        11718 - ومثل ذلك أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صغاركم دعاميص الجنة " .

                                                                                                                        11719 - وأبين من هذا حديث شعبة عن معاوية بن قرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن رجلا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 326 ] " أما يسرك ألا تأتي بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك ؟ " فقالوا له : يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال : " بل للمسلمين عامة " .

                                                                                                                        11720 - وروي عن علي ( رضي الله عنه ) في قول الله تعالى ذكره : " كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين " المدثر 38 ، 39 قال : أطفال المسلمين .

                                                                                                                        11721 - وسنذكر الآثار التي يحتج بها فرق الإسلام أهل السنة والمجبرة وغيرهم في الأطفال في باب جامع الجنائز بعد من هذا الكتاب إن شاء الله .

                                                                                                                        11722 - وأما قوله في حديث مالك " إلا تحلة القسم " فهو لفظ مخرج في التفسير المسند ، لأن القسم المذكور فيه معناه عند العلماء قول الله عز وجل : " وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا " مريم 71 .

                                                                                                                        11723 - قال الحسن وقتادة : " حتما مقضيا " : واجبا .

                                                                                                                        11724 - وكذلك قال السدي . ورواه عن مرة الهمداني عن ابن مسعود .

                                                                                                                        11725 - وقد اختلف العلماء في الورود المذكور في هذه الآية ، فقال منهم قائلون : الورود : الدخول . وممن قال ذلك : عبد الله بن رواحة ، وعبد الله بن عباس ، على أنه قد اختلف في ذلك عن ابن عباس ، وقد ذكرنا الأسانيد بذلك عنهما في ( التمهيد ) .

                                                                                                                        [ ص: 327 ] 11726 - ذكر ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : الورود الذي ذكره الله تعالى في القرآن : الدخول ليردها كل بر وفاجر .

                                                                                                                        11727 - ثم قال ابن عباس : في القرآن أربعة أوراد ، قوله تعالى : " فأوردهم النار " هود 98 وقوله : " حصب جهنم أنتم لها واردون " الأنبياء 98 وقوله : " ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا " مريم 86 وقوله : " وإن منكم إلا واردها " مريم 71 .

                                                                                                                        11728 - قال ابن عباس : والله لقد كان من دعاء من مضى " اللهم أخرجني من النار سالما وأدخلني الجنة غانما " .

                                                                                                                        11729 - وعن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " الورود هو الدخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمن بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، فينج الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا " .

                                                                                                                        11730 - يقول في ذلك الموضع : يفوز بالسلامة أهل الطاعة ، ويشقى بالعذاب أولي الكفر والمعصية .

                                                                                                                        11731 - وقال آخرون : الورود الممر على الصراط .

                                                                                                                        11732 - روى الكعبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : " وإن منكم إلا واردها " مريم 71 قال : الممر على الصراط .

                                                                                                                        11733 - وروي ذلك عن عبد الله بن مسعود ، وكعب الأحبار ، وخالد بن معدان ، وأبي نضرة ، وهو قول السدي .

                                                                                                                        [ ص: 328 ] 11734 - وروى إسرائيل وشعبة عن السدي أنه سأل مرة الهمداني عن قول الله عز وجل : " وإن منكم إلا واردها " مريم 71 قال : فحدثني أن عبد الله بن مسعود حدثهم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من أحد إلا وهو يرد النار ثم يصدرون منها بأعمالهم ، فأولهم كالبرق ، ثم كالريح ، ثم كخطو الفرس ، ثم كالراكب في رحله ، ثم كشد الرجل ، ثم كمشيه " .

                                                                                                                        11735 - وقفه إسرائيل ، وكان شعبة ربما رفعه وكان كثيرا يرفعه .

                                                                                                                        11736 - وقال آخرون : هو خطاب للكفار .

                                                                                                                        11737 - ذكر وكيع عن شعبة عن عبد الرحمن بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى : " وإن منكم إلا واردها " مريم 71 قال : هو خطاب للكفار .

                                                                                                                        11738 - روي ذلك عن الحسن قال : هو خطاب للمشركين .

                                                                                                                        11739 - قال أبو عمر : يريد : وإن منكم يا هؤلاء أو نحو ذلك .

                                                                                                                        11740 - وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها " وإن منهم إلا واردها " ردا على الآيات التي قبلها من الكفار ، قول الله تعالى : " فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا وإن منكم إلا واردها " { 68 - 71 مريم } .

                                                                                                                        11741 - وقال ابن الأنباري وغيره : جائز في القصة أن يرجع من مخاطبة الغائب إلى لفظ المواجه كما قال عز وجل : " وسقاهم ربهم شرابا طهورا إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا " الإنسان 21 ، 22 [ ص: 329 ] فأبدل الله من الكاف الهاء .

                                                                                                                        11742 - قال أبو عمر : يرجع من مخاطبة الغائب إلى المواجه ، ومن المواجه إلى الغائب كما قال عز وجل : " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " يونس 22 ، وهو كثير في القرآن وأشعار العرب .

                                                                                                                        11743 - وقال آخرون : الورود إشراف على النار بالنظر إليها ، ثم ينجى منها الفائز ، ويصلاها من قدر عليه دخولها .

                                                                                                                        11744 - واحتج هؤلاء أو بعضهم بقوله عز وجل : " ولما ورد ماء مدين " القصص 23 أي أشرف عليه ورآه .

                                                                                                                        11745 - وقال الحسن : هو كقولك وردت البصرة ، وليس الورد الدخول .

                                                                                                                        11746 - واحتج من ذهب هذا المذهب بقوله عز وجل : " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون " الأنبياء : 101 .

                                                                                                                        11747 - ومن قال : الورود الدخول قال : من نجا منها كانت عليه بردا وسلاما ، فقد أبعد عنها .

                                                                                                                        11748 - واحتجوا أيضا بقوله ( عليه السلام ) : إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال له : هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة .

                                                                                                                        11749 - وقالت طائفة : إن المؤمن إذا زحزح عن النار لم يرها ولم يردها ويكون ما يناله في الدنيا من الحمى ورودا لها .

                                                                                                                        11750 - حدثنا سعيد بن نصر قال : حدثنا ابن أبي دليم قال : حدثنا ابن وضاح قال : حدثنا محمد بن سليمان الأنباري قال : حدثنا يحيى بن يمان عن [ ص: 330 ] عثمان بن الأسود أنه قال : حظ المؤمن من النار ثم قرأ : " وإن منكم إلا واردها " فقال : الحمى في الدنيا الورود ، فلا يردها في الآخرة .

                                                                                                                        11751 - وقد روي عن أبي هريرة أنه قال : عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه مريضا كان به وعك ، فقال له : " أبشر ، فإن الله تعالى يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن لتكون حظه من النار في الآخرة " .

                                                                                                                        11752 - وفي حديث أبي ريحانة الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الحمى كير من جهنم ، وهي نصيب المؤمن من النار " .

                                                                                                                        11753 - وإسناد هذين الحديثين في ( التمهيد ) .




                                                                                                                        الخدمات العلمية