الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 119 ] 94 - باب بيان مشكل ما روي عنه عليه السلام في قتيلة ابنة قيس التي لم يدخل بها بعد تزويجه إياها حتى توفي عنها

653 - حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك ، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، حدثنا داود ابن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله عليه السلام تزوج قتيلة بنت الأشعث ، هكذا قال ابن أبي داود في حديثه ، وإنما هي أخت الأشعث فمات قبل أن يحجبها ، فبرأه الله تعالى منها .

وقد روي في أمرها الذي به برأ الله رسوله منها زيادة على هذا .

654 - كما قد أجاز لنا هارون العسقلاني مما ذكر لنا أن المفضل الغلابي حدثه به ، قال : حدثنا سعيد بن سليمان الواسطي ، عن عباد وهو ابن العوام ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج قتيلة فارتدت مع قومها ، [ ص: 120 ] ولم يخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحجبها فبرأه الله منها .

قال عباد : يعني لم يحجبها ، لم يكن ضرب عليها الحجاب ولم يخيرها كما خير نساءه .

ففي هذا الحديث زيادة على ما في الأول وفيه ارتداد قتيلة هذه مع قومها عن الإسلام ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن خيرها ، يعني بين الدنيا والآخرة ، كما خير سائر نسائه سواها فتختار الدنيا فيفارقها أو الآخرة فيمسكها ، وتكون بذلك من أزواجه فيها ، وأن البراءة التي كانت لحقتها بارتدادها وبتقصير الحجاب والتخير عنها ، وقد روي في أمرها أيضا عن الشعبي .

654 م - ما قد حدثنا ابن خزيمة ، حدثنا حجاج بن منهال ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن داود ، عن الشعبي أن نبي الله صلى الله عليه وسلم تزوج قتيلة بنت قيس ومات عنها ثم تزوجها عكرمة بن أبي جهل فأراد أبو بكر أن يقتله فقال له عمر : إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحجبها ولم يقسم لها ولم يدخل بها وارتدت مع أخيها عن الإسلام وبرئت من الله تعالى ومن رسوله ، فلم يزل به حتى تركه .

[ ص: 121 ] ففي هذا الحديث أن أبا بكر أراد أن يقتل عكرمة لما تزوج هذه المرأة ؛ لأنها كانت عنده من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي كن حرمن على الناس بقول الله تعالى : وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله الآية ، وأن عمر أخرجها من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بردتها التي كانت منها إذ كان لا يصلح لها معها أن تكون للمسلمين أما ، وقد روي عن حذيفة بن اليمان في السبب الذي به حرم على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجن بعده .

ما قد حدثنا بكار ، حدثنا أبو داود صاحب الطيالسة ، حدثنا عيسى بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو إسحاق السبيعي ، عن صلة بن زفر قال : قال حذيفة لامرأته : إن أردت أن تكوني زوجتي في الجنة فلا تزوجي بعدي ، فإن المرأة لآخر أزواجها ، ولذلك حرم الله تعالى على أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجن بعده .

وما حدثنا ابن مرزوق ، حدثنا عفان ، حدثنا عيسى بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو إسحاق السبيعي ، عن صلة ، عن حذيفة ... ثم ذكر مثله .

[ ص: 122 ] وقد روي عن أبي الدرداء ما يدل على هذا المعنى : كما

حدثنا فهد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نفير ، عن أم الدرداء أنها قالت لأبي الدرداء عند الموت : إنك خطبتني إلى أبوي في الدنيا فأنكحاك ، وإني أخطبك إلى نفسك في الآخرة ، قال : فلا تنكحي بعدي ، فخطبها معاوية ، فأخبرته بالذي كان ، فقال : عليك بالصيام .

[ ص: 123 ] مع أنه قد روي عن عمر أنه كان منع قتيلة هذه من التزويج ، وإن كان قد أخرجها من أزواج النبي عليه السلام بما أخرجها به مما ذكرناه عنه ، كما قد ذكره عنه محمد بن عبد الملك بن زنجويه ، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة أنه أخبره وعمرو بن دينار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تزوج امرأة من كندة فلم يجمعها ، فتزوجت بعد النبي عليه السلام ، ففرق عمر بينهما ، وضرب زوجها فقالت : اتق الله في يا عمر ، إن كنت من أمهات المؤمنين فاضرب علي الحجاب وأعطني مثل ما تعطيهن ، قال : أما هناك فلا ، قالت : فدعني أنكح ، قال : لا ولا نعمة ، ولا أطمع في ذلك أحدا .

فكان في هذا الحديث أن عمر وإن كان قد أخرجها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقد منعها من تزويج غير النبي عليه السلام ، وفي ذلك دليل أن المعنى الذي كان أخرجها به من أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ارتدادها عن الإسلام لا ما سواه من الدخول بها والتخير لها ؛ لأن ارتدادها كان عن الإسلام من فعلها ، والتخير لها والدخول بها لم يكونا من فعلها ، وأنه إنما أخرجها بفعلها لا بما سواه ، وفي ذلك ما قد دل على أنه لم يكن خالف أبا بكر في أمر عكرمة إلا في القتل خاصة لا فيما سواه ؛ لأنه عد ذلك شبهة دخلت عليه فعذره بها ، [ ص: 124 ] ودفع عنه القتل من أجلها ، لا أنه رأى أن يقر تلك المرأة عنده وتكون زوجة له ، ولذلك وجه من العلم جليل ، وهو أن تلك المرأة قد كانت قبل ارتدادها عن الإسلام من أزواج النبي عليه السلام مستحقة للأسباب التي يستحقها أزواجه في حياته وبعد وفاته ، حتى أخرجت نفسها من ذلك بردتها عن الإسلام إلى ما سواه فبطلت بذلك حقوقها فيما حاجت به عمر ، ولم تبطل عنها الحقوق التي كانت عليها من ترك التزويج لغير النبي عليه السلام بعده ، كالمرأة التي تنشز من زوجها فتبطل حقوقها من النفقة عليها بالتزويج الذي بينه وبينها ، وكذلك تلك المرأة قد كان لها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتزويجه إياها حقوق ، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليها به حقوق ، فلما كانت منها الردة بطلت عنه بها حقوقها عليه التي كانت تكون لها عليه بعد وفاته لو لم يكن ذلك من حجبها عن الناس والإنفاق عليها ، وبقيت حقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها بعد ذلك ، كما كانت قبله ، ومنها أنها حرام على الناس سواه .

فإن قال قائل : فإنا قد رأينا الناشز إذا رجعت عن نشوزها إلى ما كانت عليه قبله رجعت إلى حقوقها قبل زوجها التي كانت لها عليه ، والكندية التي قد ذكرت قد رجعت إلى الإسلام لأن عكرمة قد كان مسلما ولو كانت لم ترجع إلى الإسلام لما طلب تزويجها لأن المرتدة لا تحل للمسلم ، فلم لا رجعت إلى استحقاقها بعد ذلك ما يستحقه أزواج النبي عليه السلام من حجبهن والإنفاق عليهن ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه : أن الناشز إذا عادت غير ناشز استحقت على زوجها ما ذكرت ، ولم تكن الكندية كذلك لأنه [ ص: 125 ] لما كان منها الارتداد عن الإسلام كانت في حالها تلك ممن قد منعه الله تعالى دخول الجنة ، ولم يصلح لها مع ذلك أن تكون للمسلمين أما ، وحقوق الأمومة لا ترجع بعد زوالها ، وإذا لم ترجع بعد زوالها لم ترجع الكندية التي ذكرت إلى أن تكون للمسلمين أما ، وإذا لم ترجع أن تكون للمسلمين أما لم تستحق في أموالهم نفقة كما يستحق مثلها سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأمومتهن إياهم ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية