الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون .

                                                          [ ص: 2906 ] إن الكون يسير على سنة الله وعلى نواميس محكمة يدبرها منشئ الكون وخالقه والقيوم عليه بحكمته وإرادته المختارة، فهو الفعال لما يريد.

                                                          وإن من سنته - سبحانه وتعالى - أن يوزع الأرزاق على من يستحقها في علمه المكنون، وهو العزيز العليم، وفي هذا النص الكريم يتبين أنه - سبحانه - يعطي القرى حسب إيمانها وتقواها، ويشير إلى أنه إن أمهل الظالمين قاطع عليهم خيرهم جزاء ما اكتسبوا.

                                                          يقول سبحانه: ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا

                                                          (ولو) يسمونها: امتناع لامتناع، وهي داخلة على فعل مقدر تقديره: لو ثبت أن أهل القرى - أي المجتمعات الكبيرة - التي يقرى إليها الناس آمنوا بالله حق إيمانه، واتقوه حق تقاته - لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض.

                                                          وقوله تعالى: لفتحنا جواب، و"اللام" دالة على الجواب، والمراد - والله أعلم - أنزلنا عليهم من السماء، وأنبتنا لهم النبات في الأرض، على أن يكون ذلك بركة، أي خيرا كثيرا ناميا، فالظاهر إنزال المطر، وإنبات ثمرات كل شيء من عند الله تعالى.

                                                          والتعبير بـ"فتحنا" تعبير مجازي، شبه فيه نزول المطر وانهماره بفتح السماء والأرض، فشبه نزول المطر مدرارا من السماء عليهم بفتح باب يدخل فيه الناس أفواجا أفواجا، وذكر قوله تعالى: عليهم قرينة على أنه المطر، وإن ارتباط الأرزاق بالتقوى والإيمان ذكره الرسل في دعواتهم إلى أقوامهم، فقد قال نوح لقومه: استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا وقال هود لقومه: ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا ورسل الله تعالى لا يخدعون أقوامهم، بل إنهم الصادقون المبعوثون رحمة للعالمين.

                                                          ولقد قال في يونس وقومه: وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى حين وقال تعالى: فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين

                                                          [ ص: 2907 ] وهكذا نجد النصوص الكريمة تفيد أن مقت الله تعالى من الضراء والشدائد تنزل بالعاصين كما قال سبحانه، وكما جرى على ألسنة أنبيائه عليهم الصلاة والسلام.

                                                          ولقد رأينا ذلك رأي العين، فقد وجدنا رجالا كفروا بأنعم الله وساقوا أممهم إلى الفجور والعصيان، فنزل عليهم غضب الله تعالى في خذلان مستمر، ونكسة وراء نكسة.

                                                          وإنا لا نقول مقالة بعض الفلاسفة الذين يربطون الأخلاق الإنسانية بنظام الكون، فيقولون: إذا فسدت الأخلاق اضطرب الكون، وانعكس الفساد في سير الأفلاك، وفي السماء وفي الأرض، وهي الفلسفة الكونفوشيوسية.

                                                          لا نقول ذلك، ولكنا نرى أن الله تعالى ربط الكفر والعصيان بهلاك الأمم ، وربط فتح الأرزاق بالتقوى والإيمان؛ لنؤمن به، ولكن لا نغالي مغالاة الفلاسفة.

                                                          ويجب أن ننبه إلى أن المؤمنين قد يختبرون بالشدائد والمكاره ليتبين صبرهم ، ويحق جزاؤهم، ولذا قال تعالى: ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين

                                                          فإن ذلك الاختبار للقوى المؤمنة في تقواها لا يمنع أن الله تعالى ينزل عليهم خيرهم، والعاقبة للمتقين.

                                                          بين الله تعالى أن أهل القرى لو آمنوا لفتح الله عليهم بركات من السماء والأرض، ولكنهم لم يفعلوا، ولذا قال: ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون الاستدراك هنا من الوعد بفتح السماء والأرض بالبركات، فهم كذبوا ولم يؤمنوا، ولم يتقوا، فحق عليهم العذاب الشديد في الدنيا والآخرة، ولذا قال تعالت كلماته: فأخذناهم بما كانوا يكسبون "الفاء" هنا لترتيب ما بعدها على [ ص: 2908 ] ما قبلها، أي بسبب هذا التكذيب أخذناهم بالرجفة أحيانا، وبإمطار الحجارة أحيانا، وبعذاب من رجز أليم؛ وذلك بسبب ما كانوا يكسبون من كفر وجرائم إنسانية، واغترار بالحياة الدنيا.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية