الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم دخلت سنة تسع وستين

فمن الحوادث فيها خروج عبد الملك بن مروان إلى عين وردة

قال الواقدي: واستخلف عمرو بن سعيد بن العاص على دمشق فتحصن بها ، فبلغ ذلك عبد الملك ، فرجع إلى دمشق فحاصره .

وقال غيره: خرج معه إلى بعض الطريق ثم رجع إلى دمشق فتحصن بها .

قال عوانة بن الحكم: خرج عبد الملك من دمشق يريد قرقيسياء ، وفيها زفر بن الحارث الكلابي حتى إذا كان في بعض الطريق رجع عمرو بن سعيد عنه ليلا ومعه حميد بن حريث بن بحدل الكلابي حتى أتى دمشق وعليها عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي قد استخلفه عبد الملك ، فلما بلغه رجوع عمرو هرب وترك عمله ، فدخلها عمرو فغلب عليها وعلى خزائنها .

وقال آخرون: كانت هذه القصة في سنة سبعين ، وذلك حين سار عبد الملك إلى مصعب نحو العراق ، فقال له عمرو بن سعيد: إنك تخرج إلى العراق وقد كان [ ص: 90 ] أبوك وعدني هذا الأمر من بعده ، وعلى ذلك جاهدت معه ، فاجعل لي هذا الأمر من بعدك فلم يجبه ، فانصرف راجعا إلى دمشق فرجع عبد الملك في أثره حتى انتهى إلى دمشق .

قالوا: لما غلب عمرو على دمشق طلب عبد الرحمن بن أم الحكم فلم يصبه ، فأمر بداره فهدمت ، وصعد المنبر ، وقال: لكم علي حسن المؤاساة والعطية . ثم نزل ، ولما أصبح عبد الملك فقد عمرا ، فسأل عنه فأخبر خبره ، فرجع عبد الملك إلى دمشق فاقتتلوا ، ثم إن عبد الملك وعمرا اصطلحا وكتبا بينهما كتابا وأمنه عبد الملك ، وذلك عشية الخميس ، ثم إنه بعث إليه فأتاه في مائة رجل من مواليه ، وأمر بحبس من معه وأذن له ، فدخل فرأى بني مروان عنده ، فأحس بالشر ، وأمر عبد الملك بالأبواب فغلقت ، فلما دخل عمرو رحب به عبد الملك وقال: ها هنا يا أبا أمية ، وأجلسه معه على السرير ، وجعل يحدثه طويلا ، ثم قال يا غلام ، خذ السيف عنه ، فقال عمرو: إنا لله يا أمير المؤمنين ، فقال عبد الملك: أوتطمع أن تجلس معي متقلدا سيفك ، فأخذ السيف عنه ، ثم تحدثا ما شاء الله ، ثم قال: يا أبا أمية ، قال: لبيك ، قال: إنك حيث خلعتني آليت إذا أنا ملأت عيني منك وأنا مالك لك أن أجمعك في جامعة ، فقال بنو مروان: ثم تطلقه يا أمير المؤمنين؟ قال: ثم أطلقه ، وما عسيت أن أصنع بأبي أمية ، فقال بنو مروان: أبر قسم أمير المؤمنين ، فقال عمرو: وأبر قسمك يا أمير المؤمنين . فأخرج من تحت فراشه جامعة فطرحها إليه ، ثم قال: يا غلام قم فاجمعه فيها ، فقام الغلام فجمعه فيها ، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن تخرجني فيها على رؤوس الناس ، فقال عبد الملك: ما كنا لنخرجك في جامعة على رؤوس الناس ، ثم اجتبذه اجتباذة أصاب فمه السرير فكسر ثنيته ، فقال عمرو: أذكرك الله يا أمير المؤمنين أن يدعوك كسر عظم مني إلى أن تركب ما هو أعظم من ذلك ، فقال: والله لو أعلم أنك تبقي علي إن أبقي عليك [ ص: 91 ] أو تصلح قريشا لأطلقتك ، ولكن ما اجتمع رجلان قط في بلدة على ما نحن عليه إلا أخرج أحدهما صاحبه .

فلما عرف عمرو ما يريد به ، قال: أغدرا يا ابن الزرقاء . فأمر به عبد العزيز بن مروان أن يقتله ، فقام إليه بالسيف ، فقال له عمرو: أذكرك الله والرحم أن تلي أنت قتلي ، وأن تولي ذلك من هو أبعد منك رحما ، فألقى السيف وجلس . وصلى عبد الملك صلاة خفيفة ودخل وغلقت الأبواب ، ورأى الناس عبد الملك وليس معه عمرو ، فجاء إلى باب عبد الملك يحيى بن سعيد ومعه ألف عبد لعمرو فجعلوا يصيحون: أسمعنا صوتك يا أبا أمية ، وكسروا باب القصر وضربوا الناس بالسيوف ، وضرب عبد من عبيد عمرو يقال له مصقلة الوليد بن عبد الملك ضربة على رأسه ، واحتمله إبراهيم بن عربي صاحب الديوان ، فأدخله بيت القراطيس ، ودخل عبد الملك فوجد عمرا حيا ، فقال لعبد العزيز:

ما منعك أن تقتله؟ قال: منعني أنه ناشدني الله والرحم فرققت له ، فقال عبد الملك: أخزى الله أمك ، وكانت أم عبد العزيز ليلى ، وأم عبد الملك عائشة بنت معاوية بن المغيرة .

ثم إن عبد الملك قال: يا غلام ائتني بالحربة ، فأتاه بها فهزها ثم طعنه فلم تجز فيه ، فضرب بيده إلى عضد عمرو ، فوجد مس الدرع ، فضحك ثم قال: ودارع أيضا ، يا غلام ائتني بالصمصامة ، فأتاه بسيفه ، ثم أمر بعمرو فصرع ، وجلس على صدره فذبحه . وانتفض عبد الملك رعدة ، وزعموا أن الرجل إذا قتل ذا قرابة له أرعد .

فحمل عبد الملك عن صدره ، فوضع على سريره ، ودخل يحيى بن سعيد ومن معه على بني مروان الدار فجرحوهم ومن معهم من مواليهم ، فقاتلوا يحيى وأصحابه ، وجاء عبد الرحمن بن أم الحكم الثقفي فدفع إليه الرأس ، فألقاه إلى الناس .

وقد قيل: إن عبد الملك بن مروان لما خرج إلى الصلاة أمر غلامه أبا الزعيزعة بقتل عمرو ، فقتله وألقى رأسه إلى أصحابه .

وأمر عبد الملك بسريره فأبرز إلى المسجد وخرج فجلس عليه ، وفقد الوليد [ ص: 92 ] فجعل يقول: ويحكم! أين الوليد؟ وأبيهم إن كانوا قتلوه فلقد أدركوا بثأرهم ، فأتاه إبراهيم بن عربي ، فقال: هذا الوليد عندي قد أصابته جراحة وليس عليه بأس . فأتي عبد الملك بيحيى بن سعيد ، فأمر به أن يقتل ، فقام إليه عبد العزيز ، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في استئصال بني أمية وإهلاكها . وأمر بعنبسة فحبس ، ثم أتي بعامر بن الأسود الكلبي فضرب عبد الملك رأسه بقضيب خيزران كان معه ، ثم قال: أتقاتلني مع عمرو وتكون معه علي؟ قال: نعم؛ لأن عمرا أكرمني وأهنتني ، وقربني وأبعدتني ، وأحسن إلي وأسأت إلى ، فكنت معه عليك . فأمر به عبد الملك أن يقتل ، فقام إليه عبد العزيز ، فقال: أذكرك الله يا أمير المؤمنين في خالي ، فوهبه له ، وأمر ببني سعيد فحبسوا ، ومكث يحيى في الحبس شهرا أو أكثر .

ثم إن عبد الملك صعد المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم استشار الناس في قتله ، فقام بعض خطباء الناس ، فقال: يا أمير المؤمنين ، هل تلد الحية إلا حية ، نرى والله أن تقتله ، فإنه منافق عدو . ثم قام عبد الله بن مسعدة الفزاري ، فقال: يا أمير المؤمنين ، إن يحيى ابن عمك ، وقرابته ما قد علمت ، وقد صنعوا ما صنعوا ، وصنعت بهم ما قد صنعت ، وما أرى لك قتلهم ، ولكن سيرهم إلى عدوك ، فإن هم قتلوا كنت قد كفيت أمرهم ، وإن هم رجعوا رأيت فيهم رأيك . فأخذ رأيه ، فأخرج آل سعيد فألحقهم بمصعب بن الزبير .

ثم إن عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو الكلبية: ابعثي إلي بالصلح الذي كنت كتبته لعمرو ، فقالت لرسوله: ارجع إليه فقل له إني قد لففت ذلك الصلح معه في أكفانه ليخاصمك به عند ربك . ثم جمع أولاده فرق لهم وأحسن جائزتهم .

وكان الواقدي يقول: إنما تحصن بدمشق في سنة تسع وستين ، أما قتله إياه فكان في سنة سبعين .

وقال يحيى بن أكثم يرثيه:


أعيني جودا بالدموع على عمرو عشية تبتز الخلافة بالغدر



[ ص: 93 ]

كأن بني مروان إذ يقتلونه     بغاث من الطير اجتمعن على صقر
لحى الله دنيا تدخل النار أهلها     وتهتك ما دون المحارم من ستر

.

التالي السابق


الخدمات العلمية