الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            باب الدعاء عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهؤلاء الكلمات ، اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال ولهما من حديث عائشة كان يدعو في الصلاة فذكرا نحوه وزادا اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم .

                                                            التالي السابق


                                                            باب الدعاء (الحديث الأول) عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بهؤلاء الكلمات اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر المسيح الدجال (فيه) فوائد :

                                                            (الأولى) اتفق [ ص: 107 ] عليه الشيخان من طريق هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ورواه مسلم من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير بلفظ إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن شر فتنة المسيح الدجال ورواه مسلم أيضا من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية عن محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر فليتعوذ بالله من أربع فذكرها وفي رواية له من هذا الوجه من التشهد ولم يذكر الآخر ورواه مسلم أيضا من طريق طاووس عن أبي هريرة مرفوعا بلفظ : عوذوا بالله من عذاب الله عوذوا بالله من عذاب القبر عوذوا بالله من فتنة المسيح الدجال عوذوا بالله من فتنة المحيا والممات ، وله عن أبي هريرة طرق أخرى .

                                                            (الثانية) استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور مع أنه معاذ منها قطعا فائدته إظهار الخضوع والاستكانة والعبودية والافتقار وليقتدي به غيره في ذلك ويشرع لأمته .

                                                            (الثالثة) لم يبين في هذه الرواية المحل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي فيه بهذه الاستعاذة وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه عليه الصلاة والسلام كان يدعو بذلك في صلاته وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة الأمر بذلك بعد الفراغ من التشهد وفي رواية له تقييد ذلك بالأخير وقد تقدم في الفائدة الأولى ففيه استحباب الإتيان بهذا الدعاء بعد التشهد الأخير وقد صرح بذلك العلماء من أصحابنا وغيرهم وزاد ابن حزم الظاهري على ذلك فقال بوجوبه ولم يخص ذلك بالتشهد الأخير فقال ويلزمه فرضا أن يقول إذا فرغ من التشهد في كلتا الجلستين اللهم إني أعوذ بك فذكرها قال وقد روي عن طاووس أنه صلى ابنه بحضرته فقال له ذكرت هذه الكلمات ؟ قال لا ، فأمره بإعادة الصلاة انتهى وهذا الآثر عن طاوس ذكره مسلم في صحيحه . بلاغا بغير إسناد .

                                                            قال القاضي عياض : وهذا يدل على أنه حمل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك على الوجوب وقال النووي ظاهر كلام طاوس أنه حمل الأمر به على الوجوب فأمر بإعادة الصلاة لفواته وجمهور العلماء على إنه مستحب ليس بواجب ولعل طاووسا أراد تأديب ابنه [ ص: 108 ] وتأكيد هذا الدعاء عنده لا أنه يعتقد وجوبه انتهى .

                                                            وكذا قال أبو العباس القرطبي يحتمل أن يكون إنما أمره بالإعادة تغليظا عليه لئلا يتهاون بتلك الدعوات فيتركها فيحرم فائدتها وثوابها انتهى وما ذكره ابن حزم من وجوب ذلك عقب التشهد الأول لم يوافقه عليه أحد ثم إنه ترده الرواية التي تقدم ذكرها من عند مسلم التي فيها تقييد التشهد بالأخير فوجب حمل المطلق على المقيد لا سيما والحديث واحد مداره على أبي هريرة رضي الله عنه .

                                                            وقد أورد ابن حزم هذه الرواية على نفسه وقال فهذا خبر واحد وزيادة الوليد بن مسلم زيادة عدل فهي مقبولة فإنما يجب ذلك في التشهد الأخير فقط ثم أجاب عنه بقوله لو لم يكن إلا حديث محمد بن أبي عائشة وحده لكان ما ذكرت لكنهما حديثان كما أوردنا أحدهما من طريق أبي سلمة والثاني من طريق محمد بن أبي عائشة وإنما زاد الوليد على وكيع بن الجراح وبقي خبر أبي سلمة على عمومه فيما يقع عليه اسم تشهد انتهى وهو مردود لأن محمد بن أبي عائشة وأبا سلمة كلاهما يرويه عن أبي هريرة فهو حديث واحد لا حديثان ثم إن سنة الجلوس الأول التخفيف فيه عند الأئمة الأربعة وغيرهم وفي سنن أبي داود والترمذي والنسائي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف قلنا حتى يقوم قال حتى يقوم وصححه الحاكم على شرط الشيخين

                                                            وحكى ابن المنذر عن الشعبي أن من زاد فيه على التشهد ، عليه سجدتا السهو وعن ابن عمر أنه أباح أن يدعو فيه بما بدا له ولم يستحضر الشيخ تقي الدين في شرح العمدة هذه الرواية المقيدة بالأخير فقال قوله إذا تشهد أحدكم .

                                                            عام في التشهد الأول والأخير وقد اشتهر بين الفقهاء التخفيف في التشهد الأول وعدم استحباب الذكر بعده حتى سامح بعضهم في الصلاة على الأول فيه والعموم الذي ذكرناه يقتضي الطلب لهذا الدعاء فمن خصه فلا بد له من دليل راجح وإن كان نصا فلا بد من صحته انتهى وقد عرفت المخصص والله أعلم .

                                                            (الرابعة) قال الشيخ تقي الدين قد ظهرت العناية بالدعاء بهذه الأمور حيث أمرنا بها في كل صلاة وهي حقيقة لعظم الأمر فيها وشدة البلاء في وقوعها ولأن كلها أو أكثرها أمور ثمانية غيبية فتكررها على الأنفس [ ص: 109 ] يجعلها ملكة لها انتهى .



                                                            (الخامسة) المحيا مفعل من الحياة والممات مفعل من الموت ويقع على المصدر والزمان والمكان قال النووي واختلفوا في المراد بفتنة الموت فقيل فتنة القبر وقيل يحتمل أن يراد به الفتنة عند الاحتضار قال وأما الجمع بين فتنة المحيا والممات وفتنة المسيح الدجال وعذاب القبر فهو من باب ذكر الخاص بعد العام ونظائره كثيرة انتهى .

                                                            وقال الشيخ تقي الدين في شرح العمدة فتنة المحيا ما يتعرض له الإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات وأشدها وأعظمها والعياذ بالله تعالى أمر الخاتمة عند الموت قال وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت أضيفت إلى الموت لقربها منه وتكون فتنة المحيا على هذا ما يقع قبل ذلك في مدة حياة الإنسان وتصرفه في الدنيا فإن ما قارب الشيء أعطي حكمه فحالة الموت تشبه الموت ولا تعد من الدنيا ويجوز أن يراد بفتنة الممات فتنة القبر كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتنة القبر كمثل أو أعظم من فتنة الدجال قلت المعروف في لفظ الحديث أو قريبا من فتنة الدجال والله أعلم .

                                                            قال الشيخ تقي الدين ولا يكون هذا متكررا مع قوله من عذاب القبر لأن العذاب مرتب على الفتنة والسبب غير المسبب ولا يقال إن المقصود زوال عذاب القبر لأن الفتنة نفسها أمر عظيم وهو شديد يستعاذ بالله من سوئه انتهى قلت هذا مبني على أن المراد بالفتنة الامتحان والاختبار وهو الظاهر فأما إن حملت الفتنة على العذاب كما في قوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات أي عذبوهم فتتحد فتنة القبر مع عذاب القبر والأولى حمل الفتنة على الامتحان والاختبار ليحصل التغاير لا سيما وقد ذكروا أن هذا هو أصل مدلول الفتنة والله أعلم .

                                                            (السادسة) المشهور في لفظ المسيح الدجال أنه بفتح الميم وكسر السين المهملة وتخفيفها وبالحاء المهملة كالمسيح ابن مريم عليه السلام إلا أنه مسيح الهدى وذاك مسيح الضلالة سمي به لمسح إحدى عينيه فيكون بمعنى مفعول وقيل لمسحه الأرض فيكون بمعنى فاعل وقيل التمسح والتمساح المارد الخبيث فقد يكون فعيلا من هذا وقال ثعلب في نوادره التمسح والممسح الكذاب فقد يكون من هذا أيضا وضبطه بعضهم بكسر الميم [ ص: 110 ] وتشديد السين حكي عن ابن أبي مروان بن سراج وأنكره الهروي وقال ليس بشيء وضبط بوجهين آخرين هما بفتح الميم مع تخفيف السين وكسر الميم مع تشديد السين مع الخاء المعجمة فيهما يقال مسخ خلقه أي شوه وقيل هو الممسوخ العين والمسيخ الأعور وقال بعضهم أصله بالعبرانية مشيح أي بالشين المعجمة والحاء المهملة فعرب كما عرب موسى وأما الدجال فقيل معناه الكذاب وقيل المموه بباطله وسحره الملبس به والدجل طلي البعير بالقطران وقيل سمي بذلك لضربه نواحي الأرض وقطعه لها يقال دجل الرجل بالتخفيف والتثقيل كما ذكره القاضي في المشارق وبالفتح والضم كما ذكره في الإكمال شرح مسلم إذا فعل ذلك وقيل هو من التغطية لأنه يغطي الأرض بجموعه والدجل التغطية ومنه سميت دجلة لتغطية ما فاضت عليه



                                                            (السابعة) استدل به ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما على جواز الدعاء في الصلاة بما ليس من القرآن خلافا لأبي حنيفة فإنه قال لا يجوز أن يدعو في الصلاة إلا بما يوجد في القرآن قال ابن بطال وهو قول النخعي وطاووس وهو استدلال واضح لكن فيما حكوه عن أبي حنيفة نظر فإنه لا يقصر ذلك على ما في القرآن بل يلحق به في الجواز الأدعية المأثورة والذي يمتنع الدعاء به في الصلاة عند الحنفية ما يشبه كلام الناس وهو ما لا يستحيل سؤاله من العباد فلا يرد عليه بهذا الحديث لكن يرد عليه بغيره من الأحاديث والله أعلم .



                                                            (الثامنة) قال القاضي عياض جاء دعاؤه عليه الصلاة والسلام في هذه الأحاديث وغيرها جملة كقوله فتنة المحيا والممات فقد أدخل فيه جميع دعاء الدنيا والآخرة وجاء تفصيلا كقوله أعوذ بك من المأثم والمغرم وهذا داخل في فتنة المحيا وجاء دعاؤه بالتعوذ من عذاب القبر وعذاب النار وفتنة القبر وهو داخل في فتنة الممات فدل على جواز الدعاء بالوجهين وقد جاءت الأحاديث بالأمر بالدعاء إلى الله تعالى في كل شيء وإن كان قد روي عن بعض السلف استحباب الدعاء بالجوامع كما تقدم في الاستعاذة من فتنة المحيا والممات وسؤال العفو والعافية في الدنيا والآخرة ولكل مقام مقال ا هـ .



                                                            (التاسعة) فيه ذكر العام بعد الخاص لأن عذاب النار وعذاب القبر من فتنة الممات وذكر الخاص بعد العام لأن شر المسيح الدجال من فتنة انمحيا [ ص: 111 ]

                                                            (العاشرة) فيه إثبات عذاب القبر وهو مذهب أهل الحق خلافا للمعتزلة وقد اشتهرت به الأحاديث حتى كادت أن تبلغ حد التواتر والإيمان به واجب




                                                            الخدمات العلمية