الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قال تعالى: تلك القرى نقص عليك من أنبائها ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين

                                                          الخطاب في قوله تعالى: تلك القرى للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد جاء بالحق الذي يتفق مع الفطرة، فكان يجد الكفر والإنكار والعصيان ومعاداة الله ورسوله، [ ص: 2913 ] فتذهب نفسه عليهم حسرات، حتى قال الله تعالى: لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين فالله تعالى يبين له العبرة في قصص النبيين، وأن أقوامهم كفروا بهم وعاندوهم، حتى جاء أولئك بأس الله، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، إنما أنت منذر، ولكل قوم هاد.

                                                          والقرى: المجتمعات الكبيرة التي قص الله تعالى قصصها من أخبار قوم نوح وعاد وثمود وآل مدين وقوم لوط .

                                                          وقوله تعالى: نقص عليك من أنبائها نتبع أخبارها بالقصص، والأنباء هي الأخبار ذات الشأن الخطر التي تفيد العظة والاعتبار والاطمئنان للنبي - صلى الله عليه وسلم - هذه أخبارهم أو أنباؤهم ذات الشأن ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات أي: بالأدلة المعجزة الموجبة للإيمان، وأكد - سبحانه - أن الرسل جاءتهم بالبينات بقوله (ولقد) لأن اللام للتأكيد، وقد للتأكيد، والتأكيد ليس لمجيء الرسل، إنما هو لمجيئهم بالبينات التي فيها الحجج القاطعة التي لا يرتاب فيها طالب للحق، وإنما يرتاب المرتابون الذين لا يؤمنون بحق، ولا يطلبون الهداية، ولا يخضعون للحق إن بدت أماراته، وظهرت بيناته.

                                                          وقد وصف الله تعالى حال الذين يصلون ويختم على قلوبهم بالباطل، فذكر أنهم مبادرون بالإنكار والتكذيب من غير أن يفحصوا ما جاء به الرسول من أدلة، فإذا سبق الإنكار والتكذيب تشبثوا بهما وقد حجبوا عن أنفسهم النور، وكلما أمعنوا في التعلق بما سبق إلى نفوسهم ازدادوا جحودا، ولا تزيدهم الآيات إلا كفرا وإعناتا.

                                                          ولذا قال تعالى: فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل "الفاء" للإفصاح إذ تفصح عن شرط مقدر، وقوله تعالى: فما كانوا ليؤمنوا أي: ما كان من شأنهم أن يؤمنوا، وقد سارعوا إلى التكذيب، بمعنى: قبل أن يفحصوا بميزان الفعل [ ص: 2914 ] ويثبتوا.

                                                          ولقد قال في ذلك ابن كثير في تفسيره: والباء في قوله تعالى: بما كذبوا للسببية أي: ما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد لهم، حكاه ابن عطية - رحمه الله - وهو متجه حسن.

                                                          وذلك لأن أول خاطر يتعلق بالنفس، ويلتصق بالفكر، فيكون التخلي عنه محتاجا إلى جهد لا يستطيعه إلا الصابرون، وإن أولئك الذين يكذبون لأول وهلة من غير نظر يصلون إلى الحق بمجهودين:

                                                          أولهما: الانخلاع مما سبق إليهم.

                                                          والثاني: التماس البينات بلب سليم، وفكر مستقيم قد خلا مما يعوقه.

                                                          ولقد بين تعالى أن هذا طريق إغلاق القلوب عن نور الحق كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين

                                                          أي كهذه الحال التي رأيتموها من المسارعة بالتكذيب لأول وهلة، والاستمساك بأهدابه - ليطبع الله على قلوب الكافرين، فلا يدخلها نور الحق، فهم سلكوا الباطل مسارعين إليه، قبل أن يتبعوا، فلما جاءهم الحق بالبينات فكان القلب قد أغلق على الباطل، فضلوا وما أضلهم الله، إذ هم الذين سدوا الطريق، وإن أولئك الذين طبع الله تعالى على قلوبهم قد أفسدوا فطرتهم بإصرارهم على التكذيب، وخالفوا العهد الذي أخذ الله على بني آدم من ظهورهم ذريتهم; ولذا قال تعالى: وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين

                                                          الفطرة الإنسانية توجب الإيمان، لو استقامت على طريقتها من غير وسوسة الشياطين; ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح البخاري ومسلم : " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ".

                                                          وروى مسلم بسنده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: "إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".

                                                          [ ص: 2915 ] وإن الله تعالى عهد إلى بني آدم من ظهورهم ذريتهم أن يؤمنوا بالله، فقال تعالى: وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين

                                                          هذا عهد الله على بني آدم، وهم في ضلال آياتهم، قبل أن يصلوا إلى أرحام أمهاتهم، وهذا يدل على أن الإيمان المذعن هو استجابة للفطر، ومن يكفر بالحق إذ جاءه إنما يحيد بالإنسان عن طريق الفطرة المستقيمة.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية