الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب هل في المال حق واجب سوى الزكاة قال الله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب الآية . قيل : في قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق إنه يريد به اليهود والنصارى حين أنكرت نسخ القبلة ، فأعلم الله تعالى أن البر إنما هو في طاعة الله تعالى واتباع أمره لا في التوجه إلى المشرق والمغرب ؛ إذ لم يكن فيه اتباع أمره . وإن طاعة الله الآن في التوجه إلى الكعبة ، إذ كان التوجه إلى غيرها منسوخا .

وقوله تعالى ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر قيل : إن فيه حذفا ، ومعناه : " إن البر بر من آمن بالله " وقيل : إنه أراد به أن البار من آمن بالله ، كقول الخنساء :

ترتع ما رتعت حتى إذا أدركت فإنما هي إقبال وإدبار

يعني مقبلة ومدبرة .

وقوله تعالى : وآتى المال على حبه يعني أن البار من آتى المال على حبه . قيل فيه : إنه يعني حب المال ، كقوله تعالى : لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وقيل : إنه يعني حب الإيتاء ، وأن لا يكون متسخطا عند الإعطاء . ويحتمل أن يكون أراد على حب [ ص: 162 ] الله تعالى كقوله تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني وجائز أن يكون مراده جميع هذه الوجوه .

وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما يدل على أنه أراد حب المال ، وهو ما رواه جرير بن عبد الحميد عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟ فقال : أن تصدق وأنت صحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان .

وحدثنا أبو القاسم عبد الله بن إسحاق المروزي قال : حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا الثوري ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : وآتى المال على حبه قال : " أن تؤتيه وأنت صحيح تأمل العيش وتخشى الفقر " .

وقوله تعالى : وآتى المال على حبه ذوي القربى يحتمل به أن يريد به الصدقة الواجبة وأن يريد به التطوع ، وليس في الآية دلالة على أنها الواجبة ، وإنما فيها حث على الصدقة ، ووعد بالثواب عليها ؛ وذلك لأن أكثر ما فيها أنها من البر ، وهذا لفظ ينطوي على الفرض والنفل ، إلا أن في سياق الآية ، ونسق التلاوة ما يدل على أنه لم يرد به الزكاة لقوله تعالى : وأقام الصلاة وآتى الزكاة فلما عطف الزكاة عليها دل على أنه لم يرد الزكاة بالصدقة المذكورة قبلها .

ومن الناس من يقول : أراد به حقوقا واجبة في المال سوى الزكاة نحو وجوب صلة الرحم إذا وجده ذا ضر شديد . ويجوز أن يريد من قد أجهده الجوع حتى يخاف عليه التلف فيلزمه أن يعطيه ما يسد جوعته .

وقد روى شريك عن أبي حمزة ، عن عامر ، عن فاطمة بنت قيس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في المال حق سوى الزكاة ، وتلا قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر الآية . وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الإبل فقال : إن فيها حقا فسئل عن ذلك ، فقال : إطراق فحلها وإعارة ذلولها ومنحة سمينها . فذكر في هذين الحديثين أن في المال حقا سوى الزكاة ، وبين في الحديث الأول أنه تأويل قوله تعالى : ليس البر أن تولوا وجوهكم الآية .

وجائز أن يريد بقوله : في المال حق سوى الزكاة ما يلزم من صلة الرحم بالإنفاق على ذوي المحارم الفقراء ، ويحكم به الحاكم عليه لوالديه وذوي محارمه إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب . وجائز أن يريد به ما يلزمه من طعام الجائع المضطر . وجائز أن يريد به حقا مندوبا إليه لا واجبا ؛ إذ ليس قوله : " في المال حق " يقتضي [ ص: 163 ] الوجوب ، إذ من الحقوق ما هو ندب ، ومنها ما هو فرض . وحدثنا عبد الباقي : حدثنا أحمد بن حماد بن سفيان قال : حدثنا كثير بن عبيد : حدثنا بقية عن رجل من بني تميم يكنى أبا عبد الله ، عن الضبي الشعبي ، عن مسروق ، عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نسخت الزكاة كل صدقة .

وحدثنا عبد الباقي قال : حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال : حدثنا علي بن سعيد قال : حدثنا المسيب بن شريك ، عن عبيد المكتب ، عن عامر ، عن مسروق ، عن علي قال : " نسخت الزكاة كل صدقة " .

فإن صح هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فسائر الصدقات الواجبة منسوخة بالزكاة ، وإن لم يصح ذلك مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لجهالة راويه فإن حديث علي عليه السلام حسن السند ، وهو يوجب أيضا إثبات نسخ الصدقات التي كانت واجبة بالزكاة ، وذلك لا يعلم إلا من طريق التوقيف ، فيعلم بذلك أن ما قاله علي هو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم إياه عليه .

وحينئذ يكون المنسوخ من الصدقات صدقات قد كانت واجبة ابتداء بأسباب من قبل من يجب عليه تقتضي لزوم إخراجها ثم نسخت بالزكاة نحو قوله تعالى : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ونحو ما روي في قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده أنه منسوخ عند بعضهم بالعشر ونصف العشر ، فيكون المنسوخ بالزكاة مثل هذه الحقوق الواجبة في المال من غير ضرورة .

وأما ما ذكرنا من الحقوق التي تلزم من نحو الإنفاق على ذوي الأرحام عند العجز عن التكسب ، وما يلزم من إطعام المضطر ، فإن هذه فروض لازمة ثابتة غير منسوخة بالزكاة . وصدقة الفطر واجبة عند سائر الفقهاء ، ولم تنسخ بالزكاة مع أن وجوبها ابتداء من قبل الله تعالى غير متعلق بسبب من قبل العبد ، فهذا يدل على أن الزكاة لم تنسخ صدقة الفطر .

وقد روى الواقدي عن عبد الله بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل أن تفرض الزكاة ، فلما فرضت الزكاة لم يأمرهم ، ولم ينههم ، وكانوا يخرجونها .

فهذا الخبر لو صح لم يدل على نسخها ؛ لأن وجوب الزكاة لا ينفي بقاء وجوب صدقة الفطر ، وعلى أن الأولى أن فرض الزكاة متقدم على صدقة الفطر ؛ لأنه لا خلاف بين السلف في أن " حم السجدة " مكية ، وأنها من أوائل ما نزل من القرآن ، وفيها وعيد تارك الزكاة عند قوله : وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون والأمر بصدقة الفطر إنما كان بالمدينة ، فدل ذلك على أن فرض الزكاة متقدم لصدقة الفطر . وقد روي عن ابن عمر [ ص: 164 ] ومجاهد في قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده أنها محكمة وأنه حق واجب عند القوم غير الزكاة .

وأما الحقوق التي تجب بأسباب من قبل العبد نحو الكفارات والنذور ، فلا خلاف أن الزكاة لم تنسخها . واليتامى المرادون بالآية هم الصغار الفقراء الذين مات آباؤهم . والمساكين مختلف فيه ، وسنذكر ذلك في سورة براءة إن شاء الله تعالى . وابن السبيل روي عن مجاهد أنه المسافر ، وعن قتادة أنه الضيف . والقول الأول أشبه ؛ لأنه إنما سمي ابن السبيل لأنه على الطريق ، كما قيل للطير الإوز : ابن ماء لملازمته له .

قال ذو الرمة :

وردت اعتسافا والثريا كأنها     على قمة الرأس ابن ماء محلق

والسائلين يعني به الطالبين للصدقة ، قال الله تعالى : والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا محمد بن كثير قال : حدثنا سفيان قال : حدثنا مصعب بن محمد قال : حدثنا يعلى بن أبي يحيى عن فاطمة بنت حسين بن علي رضي الله تعالى عنهم أجمعين قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : للسائل حق ، وإن جاء على فرس . حدثنا عبد الباقي بن قانع قال : حدثنا عبيد بن شريك : حدثنا أبو الجماهر قال : حدثنا عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أعطوا السائل وإن أتى على فرس والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية