الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          . 932 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          وكذلك لو نزل أهل الحرب عندك تجارا بأمان ، أو رسلا ، أو مستأمنين مستجيرين ، أو ملتزمين لأن يكونوا ذمة لنا فوجدنا بأيديهم أسرى مسلمين ، أو [ ص: 361 ] أهل ذمة ، أو عبيدا ، أو إماء للمسلمين ، أو مالا لمسلم ، أو لذمي : فإنه ينتزع كل ذلك منهم بلا عوض أحبوا أم كرهوا . ويرد المال إلى أصحابه ، ولا يحل لنا الوفاء بكل عهد أعطوه على خلاف هذا ; لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم { كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل } .

                                                                                                                                                                                          ونسأل من خالفنا ما يقول لو عاهدناهم على أن لا نصلي ، أو لا نصوم وكذلك لو أسلموا ، أو تذمموا فإنه يؤخذ كل ما في أيديهم من حر مسلم أو ذمي ، أو لمسلم ، أو لذمي ، ويرد إلى أصحابه بلا عوض ولا شيء عليهم فيما استهلكوا في حال كونهم حربيين .

                                                                                                                                                                                          ولو أن تاجرا ; أو رسولا دخل إلى دار الحرب فافتدى أسيرا ، أو أعطوه إياه ، أو ابتاع متاعا لمسلم أو لذمي أو وهبوه له ، فخرج إلى دار الإسلام : انتزع منه كل ذلك ، ورد إلى صاحبه ، وهو من خسارة المشتري ، وأطلق الأسير بلا غرامة لما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا من أن أبطل الباطل ، وأظلم الظلم : أخذ المشرك للمسلم ، أو لماله ، أو لذمي أو لماله ، والظلم لا يجوز إمضاؤه بل يرد ويفسخ .

                                                                                                                                                                                          فلو أن الأسير قال لمسلم ، أو لذمي دخل دار الحرب : افدني منهم ، وما تعطيهم دين لك علي ، فهو كما قال ، وهو دين عليه ، لأنه استقرضه فأقرضه ، وهذا حق .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك ، وابن القاسم : لو نزل حربيون بأمان وعندهم مسلمات مأسورات : لم ينتزعن منهم ، ولا يمنعون من الوطء لهن .

                                                                                                                                                                                          وقال ابن القاسم : لو تذمم حربيون وبأيديهم أسرى مسلمون أحرار : فهم باقون في أيدي أهل الذمة عبيد لهم كما كانوا .

                                                                                                                                                                                          وهذان القولان لا نعلم قولا أعظم فسادا منهما ، ونعوذ بالله منهما ، وليت شعري ما القول لو كان بأيديهم شيوخ مسلمون وهم يستحلون فعل قوم لوط أيتركون وذلك ؟ أو لو أن بأيديهم مصاحف أيتركون يمسحون بها العذر عن أستاههم ؟ نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول أتم البراءة - ونعوذ بالله من الخذلان . 933 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          فإن ذكروا حديث أبي جندل ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رده على المشركين - فلا حجة لهم فيه لوجوه . [ ص: 362 ] أولها - أنه عليه السلام رده ولم يكن العهد تم بينهم ، وهم لا يقولون بهذا .

                                                                                                                                                                                          والثاني - أنه عليه السلام لم يرده حتى أجاره له مكرز بن حفص من أن يؤذى .

                                                                                                                                                                                          والثالث - أنه عليه السلام قد كان الله تعالى أعلمه أنه سيجعل الله له فرجا ومخرجا ونحن لا نعلم ذلك .

                                                                                                                                                                                          والرابع -

                                                                                                                                                                                          أنه خبر منسوخ نسخه قول الله تعالى بعد قصة أبي جندل : { يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن } فأبطل الله تبارك وتعالى بهذه الآية عهدهم في رد النساء ، ثم أنزل الله تعالى : ( براءة ) بعد ذلك فأبطل العهد كله ونسخه بقوله تعالى : { براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } . وبقوله تعالى في ( براءة ) أيضا : { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } الآية فأبطل تعالى كل عهد للمشركين حاشا الذين عاهدوا عند المسجد الحرام .

                                                                                                                                                                                          وبقوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } ، وقال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ، فأبطل الله تعالى كل عهد ولم يقره ، ولم يجعل للمشركين إلا القتل ، أو الإسلام ، ولأهل الكتاب خاصة إعطاء الجزية وهم صاغرون وأمن المستجير والرسول حتى يؤدي رسالته ويسمع المستجير كلام الله ثم يردان إلى بلادهما ولا مزيد ، فكل عهد غير هذا فهو باطل مفسوخ لا يحل الوفاء به ; لأنه خلاف شرط الله عز وجل وخلاف أمره .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 363 ] روينا من طريق البخاري نا عبد الله بن محمد نا عبد الرزاق أخبرنا معمر أخبرني الزهري قال : أخبرني عروة بن الزبير { عن المسور بن مخرمة وغيره فذكر حديث الحديبية ، وفيه فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين وقد جاء مسلما ؟ فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل : هذا أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إنا لم نقض الكتاب بعد ، قال : فوالله إذا لا أصالحك على شيء أبدا ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فأجزه لي قال : ما أنا بمجيزه لك قال : بلى فافعل . قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز - هو ابن حفص بن الأحنف : بل قد أجزناه لك } فهذا خلاف قولهم كلهم وحديث أبي جندل حجة عليهم كما أوردنا .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا عفان هو ابن مسلم نا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس : { أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم : أن من جاء منكم لم نرده عليكم ومن جاء منا رددتموه علينا . فقالوا يا رسول الله أتكتب هذا ؟ قال : نعم ، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا } وهذا خبر منه عليه السلام مقطوع بصدقه .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث هو ابن سعد - عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أنه سمع المسور بن مخرمة ، وآخر : يخبران عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكرا { حديث الحديبية ، وفيه : فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو ، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما ، وجاءت المؤمنات مهاجرات ، وجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله تعالى فيهن : { إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن } } الآية

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية