الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب (17) إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق (18) والطير محشورة كل له أواب (19) وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب (20) وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب (21) إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط (22) إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب (23) قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب (24) فغفرنا له ذلك وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (25) [ ص: 3015 ] يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (26) وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار (27) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار (28) كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب (29) ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب (30) إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد (31) فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب (32) ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق (33) ولقد فتنا سليمان .وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب (34) قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب (35) فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب (36) والشياطين كل بناء وغواص (37) وآخرين مقرنين في الأصفاد (38) هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب (39) وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب (40) واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب (41) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب (42) ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب (43) وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب (44) واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار (45) إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار (46) وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (47) واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار (48)

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3016 ] هذا الدرس كله قصص وأمثلة من حياة الرسل - صلوات الله عليهم - تعرض كي يذكرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويدع ما يعانيه من قومه من تكذيب واتهام وتعجيب وافتراء; ويصبر على ما يواجهونه به مما تضيق به الصدور.

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا القصص يعرض - في الوقت ذاته - آثار رحمة الله بالرسل قبله: وما أغدق عليهم من نعمة وفضل، وما آتاهم من ملك وسلطان ومن رعاية وإنعام. وذلك ردا على عجب قومه من اختيار الله له. وما هو ببدع من الرسل. وفيهم من آتاه الله إلى جانب الرسالة الملك والسلطان; وفيهم من سخر له الجبال يسبحن معه والطير; وفيهم من سخر له الريح والشياطين.. كداود وسليمان.. فما وجه العجب في أن يختار الله محمدا الصادق لينزل عليه الذكر من بين قريش في آخر الزمان؟

                                                                                                                                                                                                                                      كذلك يصور هذا القصص رعاية الله الدائمة لرسله، وحياطتهم بتوجيهه وتأديبه. فقد كانوا بشرا - كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم بشر - وكان فيهم ضعف البشر. وكان الله يرعاهم فلا يدعهم لضعفهم; إنما يبين لهم ويوجههم، ويبتليهم ليغفر لهم ويكرمهم. وفي هذا ما يطمئن قلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى رعاية ربه له، وحمايته وحياطته في كل خطوة يخطوها في حياته.

                                                                                                                                                                                                                                      اصبر على ما يقولون، واذكر عبدنا داود ذا الأيد، إنه أواب إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. والطير محشورة كل له أواب. وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب ..

                                                                                                                                                                                                                                      اصبر .. إنها الإشارة إلى الطريق المطروق في حياة الرسل - عليهم صلوات الله - الطريق الذي يضمهم أجمعين. فكلهم سار في هذا الطريق. كلهم عانى. وكلهم ابتلي. وكلهم صبر. وكان الصبر هو زادهم جميعا وطابعهم جميعا. كل حسب درجته في سلم الأنبياء.. لقد كانت حياتهم كلها تجربة مفعمة بالابتلاءات; مفعمة بالآلام; وحتى السراء كانت ابتلاء وكانت محكا للصبر على النعماء بعد الصبر على الضراء. وكلتاهما في حاجة إلى الصبر والاحتمال..

                                                                                                                                                                                                                                      ونستعرض حياة الرسل جميعا - كما قصها علينا القرآن الكريم - فنرى الصبر كان قوامها، وكان العنصر البارز فيها. ونرى الابتلاء والامتحان كان مادتها وماءها..

                                                                                                                                                                                                                                      لكأنما كانت تلك الحياة المختارة - بل إنها لكذلك - صفحات من الابتلاء والصبر معروضة للبشرية، لتسجل كيف تنتصر الروح الإنسانية على الآلام والضرورات; وكيف تستعلي على كل ما تعتز به في الأرض; وتتجرد من الشهوات والمغريات; وتخلص لله وتنجح في امتحانه، وتختاره على كل شيء سواه.. ثم لتقول للبشرية في النهاية: هذا هو الطريق. هذا هو الطريق إلى الاستعلاء، وإلى الارتفاع. هذا هو الطريق إلى الله.

                                                                                                                                                                                                                                      اصبر على ما يقولون .. وقد قالوا: هذا ساحر كذاب .. وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن هذا لشيء عجاب .. وقالوا: أأنزل عليه الذكر من بيننا؟ .. وغير ذلك كثير. والله يوجه نبيه إلى الصبر على ما يقولن. ويوجهه إلى أن يعيش بقلبه مع نماذج أخرى غير هؤلاء الكفار. نماذج مستخلصة كريمة. هم إخوانه من الرسل الذين كان يذكرهم - صلى الله عليه وسلم - ويحسن بالقرابة الوثيقة بينه وبينهم; ويتحدث عنهم حديث الأخوة والنسب والقرابة. وهو يقول.. رحم الله أخي فلانا.. أو أنا أولى بفلان.

                                                                                                                                                                                                                                      اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب ..

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 3017 ] يذكر داود هنا بأنه ذو القوة. وبأنه أواب.. وقد جاء من قبل ذكر قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة.. وهم طغاة بغاة. كان مظهر قوتهم هو الطغيان والبغي والتكذيب. فأما داود فقد كان ذا قوة، ولكنه كان أوابا، يرجع إلى ربه طائعا تائبا عابدا ذاكرا. وهو القوي ذو الأيد والسلطان.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد مضى في سورة البقرة بدء قصة داود، وظهوره في جيش طالوت، في بني إسرائيل - من بعد موسى - إذ قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله. فاختار لهم طالوت ملكا. ولقي بهم عدوهم الجبار جالوت وجنوده. وقتل داود جالوت. وكان إذ ذاك فتى. ومنذ ذلك الحين ارتفع نجمه حتى ولي الملك أخيرا; وأصبح ذا سلطان. ولكنه كان أوابا رجاعا إلى ربه بالطاعة والعبادة والذكر والاستغفار.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية