الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 152 ]

باب

في الكلام على معنى كلمة التوحيد والتحقق به، وما يتصل بذلك

عن أنس -رضي الله عنه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، ومعاذ رديفه، فقال: «يا معاذ»، قال: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: «يا معاذ!»، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك، قال: «يا معاذ!»، قال: لبيك يا رسول الله وسعديك قال: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار»، قال: يا رسول الله ! ألا أخبر بها الناس فيستبشروا؟ قال: «إذا يتكلوا»، فأخبر بها معاذ عند موته تأثما. أخرجه الشيخان.

وعن عتبان بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله قد حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله. أخرجه البخاري، ومسلم.

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة، أو أبي سعيد في قصة غزوة تبوك، وفضل أزوادهم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما، فيحجب عنه الجنة».

وفي «الصحيحين» عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك، إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق»، قال: «وإن زنى، وإن سرق؟» قالها ثلاثا، ثم قال في الرابعة: «على رغم أنف أبي ذر».

فخرج أبو ذر، وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر.


وفي «مسلم» أيضا عن عبادة بن الصامت: أنه قال عند موته: سمعت [ ص: 153 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، حرم الله عليه النار».

وفي «الصحيحين» عن عبادة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمة ألقاها إلى مريم، وروح منه، والجنة حق، والنار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل».

قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله تعالى-: وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة يطول ذكرها.

وأحاديث هذا الباب نوعان:

أحدهما: ما فيه أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة، أو لم يحجب عنها.

وهذا ظاهر؛ فإن النار لا يخلد فيها أحد من أهل التوحيد الخالص، وقد يدخل الجنة، ولا يحجب عنها إذا طهر من ذنوبه بالنار.

وحديث أبي ذر معناه: إن الزنا والسرقة لا يمنعان دخول الجنة مع التوحيد، وهذا حق لا مرية فيه، ليس فيه أنه لا يعذب عليهما مع التوحيد.

وفي «مسند البزار» عن أبي هريرة مرفوعا: من قال: لا إله إلا الله، نفعته يوما من دهره، يصيبه قبل ذلك ما أصابه».

والثاني: ما فيه أنه يحرم على النار.

وهذا حمله بعضهم على الخلود فيها، أو على نار يخلد فيها أهلها، وهي ما عدا الدرك الأعلى.

فإن الدرك الأعلى يدخله خلق كثير من عصاة الموحدين بذنوبهم، ثم يخرجون بشفاعة الشافعين، وبرحمة أرحم الراحمين.

وفي «الصحيحين»: أن الله تعالى يقول: «وعزتي وجلالي؛ لأخرجن من النار من قال: لا إله إلا الله».

قال طائفة من العلماء: المراد من هذه الأحاديث: أن لا إله إلا الله، سبب [ ص: 154 ] دخول الجنة، والنجاة من النار، والمقتضي لذلك.

ولكن المقتضي لا يعول عليه إلا باستجماع شروطه، وانتفاء موانعه.

فقد يتخلف عن مقتضاه؛ لفوات شرط من شروطه، أو لوجود مانع.

وهذا قول الحسن، ووهب بن منبه، وهو الأظهر.

قال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ما أعددت لهذا اليوم؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة، قال الحسن: نعم العدة، إن لـ: «لا إله إلا الله» شروطا، فإياك وقذف المحصنات.

وروي عنه أنه قال للفرزدق: هذا العمود، فأين الطنب؟

وقيل للحسن: إن ناسا يقولون: من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة.

فقال: من قال: لا إله إلا الله، فأدى حقها، وفرضها، دخل الجنة.

وقال وهب بن منبه لمن سأل: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟

قال: ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان، فتح لك، وإلا، لم يفتح لك.

وهذا الحديث: «إن مفتاح الجنة لا إله إلا الله» أخرجه أحمد بإسناد منقطع عن معاذ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سألك أهل اليمن عن مفتاح الجنة، فقل: شهادة أن لا إله إلا الله».

ويدل على صحة هذا القول: أن النبي صلى الله عليه وسلم رتب دخول الجنة على الأعمال الصالحة في كثير من النصوص.

كما في «الصحيحين» عن أبي أيوب: أن رجلا قال: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلني الجنة، فقال: «تعبد الله، ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم».

وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة: أن رجلا قال: يا رسول الله! دلني على عمل إن عملته دخلت الجنة، قال: تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان»، فقال الرجل: والذي [ ص: 155 ] نفسي بيده! لا أزيدن على هذا شيئا، ولا أنقص منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا».

وفي «المسند» عن بشير بن الخصاصية، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه، فاشترط علي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن أقيم الصلاة، وأوتي الزكاة، وأن أحج حجة الإسلام، وأن أصوم رمضان، وأن أجاهد في سبيل الله، فقلت: يا رسول الله! أما اثنتين فو الله ما أطيقهما: الجهاد، والصدقة. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، ثم حركها، وقال: لا جهاد، ولا صدقة، فبم تدخل الجنة إذا؟»، قلت: يا رسول الله! أبايعك، فبايعته عليهن كلهن.

ففي هذا الحديث: أن الجهاد، والصدقة شرط في دخول الجنة مع حصول التوحيد، وكذا الصلاة، والصيام، والحج.

التالي السابق


الخدمات العلمية