الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                                                                                                          948 - مسألة :

                                                                                                                                                                                          ومن وجد كنزا من دفن كافر غير ذمي - جاهليا كان الدافن ، أو غير جاهلي - فأربعة أخماسه له حلال ، ويقسم الخمس حيث يقسم خمس الغنيمة ، ولا يعطي للسلطان من كل ذلك شيئا إلا إن كان إمام عدل فيعطيه الخمس فقط ، وسواء وجده في فلاة في أرض العرب ، أو في أرض خراج ، أو أرض عنوة ، أو أرض صلح ; أو في داره ، أو في دار مسلم ، أو في دار ذمي ، أو حيث ما وجده حكمه سواء كما ذكرنا ، وسواء وجده حر ، أو عبد ، أو امرأة ، قال الله عز وجل : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول } الآية ، وقال تعالى : { فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا } ، ومال الكافر غير الذمي غنيمة لمن وجده .

                                                                                                                                                                                          وروينا من طريق مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { وفي الركاز الخمس }

                                                                                                                                                                                          ومن حديث رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان نا شعبة حدثني إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها " أن رجلا قال لها : أصبت كنزا فرفعته إلى السلطان فقالت عائشة : بفيك الكثكث " الكثكث التراب وقولنا هذا هو قول أبي سليمان ، ولا يكون وجوده في أرض ممتلكة لمسلم ، أو ذمي موجبا لملك صاحب الأرض له لأنه غير الأرض ، فلا يكون ملك الأرض ملكا لما فيها من غيرها من صيد ، أو لقطة ، أو دفينة ، أو غير ذلك .

                                                                                                                                                                                          وقال الشافعي كقولنا ، إلا أنه قال : إن ادعى صاحب الأرض التي وجد فيها أنه قد وجده ثم أقره فهو له - وهذا ليس بشيء لأنها دعوى لا بينة له عليها فهو [ ص: 386 ] لمن وجده ; لأنه في يده وهو غانمه إلا أن يوجد أثر استخراجه ، ثم رده فيكون حينئذ قول صاحب الأرض حقا ، وأما إذا وجد كما وضع أول مرة فكذب مدعيه ظاهر بلا شك .

                                                                                                                                                                                          وقال مالك : لا يكون لواجده إلا أن يجده في صحارى أرض العرب فهو له بعد الخمس ، فإن وجده في أرض عنوة فهو كله لبقايا مفتتحي تلك البلاد ، وفيه الخمس ; فإن وجده في أرض صلح فهو كله لأهل الصلح ، ولا خمس فيه .

                                                                                                                                                                                          وهذا خطأ ظاهر من وجوه : أولها : أنه أسقط الخمس عما وجد من ذلك في أرض صلح ، وهذا خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وفي الركاز الخمس } فعم عليه السلام ولم يخص أرض صلح من غيرها .

                                                                                                                                                                                          وثانيها : أنهم إنما صالحوا على ما يملكونه مما بأيديهم لا على ما لا يملكونه ولا هو بأيديهم ولا يعرفونه .

                                                                                                                                                                                          وثالثها : أنهم لو ملكوا كل ركاز في الأرض التي صالحوا عليها لوجب أن تملكه أيضا العرب الذين أسلموا على بلادهم فيكون ما وجد فيها من ركاز للذين أسلموا على تلك الأرض - وهذا خلاف قولهم .

                                                                                                                                                                                          وأما قوله : فيما وجد في أرض العنوة أنه لورثة المفتتحين . فخطأ لأن المفتتحين للأرض إنما يملكون ما غنموا ، لا ما لم يغنموا ، والركاز مما لم يغنموا ، ولا حصلوا عليه ، ولا أخذوه ; فلا حق لهم فيه .

                                                                                                                                                                                          والعجب كله أنهم لا يجعلون الأرض حقا للمفتتحين أرض العنوة وهم غنموها ثم يجعلون الركاز الذي فيها حقا لهم وهم لم يغنموه .

                                                                                                                                                                                          وقال الحنفيون : هو لواجده وعليه فيه الخمس ، وله أن يأخذ الخمس إن كان محتاجا إلا أن يجده في دار اختطها مسلم ، أو في دار الحرب ، فإنه إن وجده في دار اختطها مسلم فهو لصاحب الخطة وفيه الخمس ; وإن وجده في دار حربي وقد دخلها بأمان فهو كله للحربي ، وإن وجده في صحراء في دار الحرب فهو كله لواجده ولا خمس عليه فيه .

                                                                                                                                                                                          [ ص: 387 ] وهذا تقسيم في غاية الفساد ، وخلاف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن في الركاز الخمس - فعم عليه السلام ولم يخص ; ولا يعرف هذا التقسيم عن أحد قبل أبي حنيفة ، وهو مع ذلك قول بلا برهان ، وفيه عن السلف آثار . منها : ما رويناه من طريق ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي : أن عليا أتاه رجل بألف وخمسمائة درهم وجدها في خربة بالسواد ، فقال علي : إن كنت وجدتها في قرية خربة تحمل خراجها قرية عامرة فهي لهم ، وإن كانت لا تحمل خراجها فلك أربعة أخماسه ولنا خمسه ، وسأطيبه لك جميعا .

                                                                                                                                                                                          وهذا خلاف قول الحنفيين ، والمالكيين ، لأن السواد أخذ عنوة لا صلحا ، وكان في أيام علي دار إسلام ، وقبل ذلك بدهر ، وشيء رويناه من طريق قتادة : أن أبا موسى وجد دانيال بالسوس إذ فتحها ومعه مال إلى جنبه ، كانوا يستقرضون منه ما احتاجوا إلى أجل مسمى ، فإذا جاء ذلك الأجل ولم يرده المستقرض برص فكتب إلى عمر بذلك . فكتب إليه عمر : كفنه ، وحنطه ، وصل عليه ، وادفنه كما دفنت الأنبياء واجعل المال في بيت مال المسلمين ، وهذا صحيح ، لأنه لم يكن ركازا ، إنما كان معلوما ظاهرا ، ولم يكن من أموال الكفار فيخمس ويغنم ; بل كان مال نبي فهو للمسلمين في مصالحهم .

                                                                                                                                                                                          ومنها : خبر عن عمر من طريق سماك بن حرب عن جرير بن رياح عن أبيه : أنهم أصابوا قبرا بالمدائن ، وفيه ميت عليه ثياب منسوجة بالذهب ، ومعه مال ؟ فكتب فيه عمار بن ياسر إلى عمر ؟ فكتب إليه عمر أعطهم إياه ولا تنزعه منهم - وهذا قولنا لا قولهم ، إلا أنه ليس فيه ذكر خمس ; ولا بد من الخمس عندنا وعندهم .

                                                                                                                                                                                          وخبر من طريق هشيم عن مجالد عن الشعبي : أن رجلا وجد ألف دينار مدفونة خارج المدينة ، فأتى بها عمر ، فأخذ خمسها مائتي دينار ودفع إليه الباقي ; ثم جعل عمر يقسم المائتين بين من حضر من المسلمين إلى أن فضل منها فضلة فدفعها إلى واجدها - وهذا قولنا ، إلا في صفة قسمته الخمس .

                                                                                                                                                                                          ومن طريق ابن جريج : أن عمرو بن شعيب أخبره أن عبدا وجد ركزة على عهد عمر فأعتقه منها ، وأعطاه منها ، وجعل سائرها في بيت المال - وهم لا يقولون بهذا ، وسواء عندنا وجد الركاز حر ، أو عبد ، الحكم [ عندنا ] واحد على ما قدمنا . [ ص: 388 ]

                                                                                                                                                                                          وروينا خبرين : أحدهما - من طريق الزمعي عن عمته قريبة بنت عبد الله بن وهب عن أمها كريمة بنت المقداد بن الأسود عن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب : { أن المقداد خرج إلى حاجته ببقيع الخبخبة فإذا جرذ يخرج من جحر دينارا بعد دينار ، ثم أخرج خرقة حمراء فكانت ثمانية عشر دينارا فأخذها وحملها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أهويت الجحر ؟ قال : لا ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك فيها } وهذا خبر ليس موافقا لقول أحد ممن ذكرنا وإسناده مظلم ، الزمعي عن عمته قريبة وهي مجهولة ; ولعل تلك الدنانير من دفن مسلم مجهول ميئوس عن معرفته فهي لمن وجدها عندنا كلها .

                                                                                                                                                                                          وخبر آخر : من طريق يحيى بن معين عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه عن محمد بن إسحاق عن يحيى بن أبي بجير { عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خروجه إلى الطائف فمروا بقبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا قبر أبي رغال وكان بهذا الحرم يدفع عنه ، فلما خرج أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان فدفن فيه ، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب إن أنتم نبشتم عنه وجدتموه ، فابتدره الناس فوجدوا الغصن } وهذا لا يصح ، لأنه عن يحيى بن أبي بجير وهو مجهول ; ثم لا حجة فيه لقول أحد ممن ذكرنا ; وإنما فيه نبش قبور المشركين فقط وبالله تعالى التوفيق .

                                                                                                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                                                                                                          الخدمات العلمية