الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 43 ] فصل سنتكلم في باب الترجيح على تعارض القولين ، وهنا على تعارض الفعلين ; لتعلقه بأحكام الأفعال وعلى تعارض القول والفعل . [ تعارض الفعلين ] أما الأول : فالمشهور أنه لا يجوز التعارض بين الأفعال ، بحيث يكون البعض منها ناسخا لبعض ، أو مخصصا له ; لجواز أن يكون الفعل في ذلك الوقت واجبا ، وفي مثل ذلك الوقت بخلافه ; لأن الفعل لا عموم له ، وتأخر أحدهما لا يكون هو الناسخ في الحقيقة ; لأن فعله الأول لا ينتظم جميع الأوقات المستقبلة ، ولا يدل على التكرار ، هكذا جزم به القاضي أبو بكر وغيره من الأصوليين على اختلاف طبقاتهم ، وحكى ابن العربي في كتاب " المحصول " ثلاثة أقوال : أحدها : التخيير . وثانيها : تقديم المتأخر كالأقوال إذا تأخر بعضها . والثالث : حصول التعارض وطلب الترجيح من خارج . قال : كما اتفق في صلاة الخوف ، صليت على أربع وعشرين صفة ، يصح منها ستة عشر خير أحمد فيها ، وقال مالك ، والشافعي : يترجح بما هو أقرب لهيئة الصلاة ، [ ص: 44 ] وقدم بعضهم الأخير منها إذا علم ، وحكى صاحب " الكبريت الأحمر " عن ابن رشد : أن الحكم في الأفعال كالحكم في الأقوال ، ومثله برواية وائل وابن مسعود { رفع اليدين في تكبيرة الإحرام حذاء أذنيه } وعدم ذلك . وقال القرطبي : يجوز التعارض بين الفعلين عند من قال بأن الفعل يدل على الوجوب . فإن علم التاريخ فالنسخ ، وإن جهل فالترجيح ، وإلا فهما متعارضان كالقولين ، وأما على القول بأنه يدل على الندب أو الإباحة فلا تعارض .

                                                      وقال الغزالي : في " المنخول " إذا نقل فعل ، وحمل على الوجوب ، ثم نقل فعل يناقضه . قال القاضي : لا يقطع على أنه ناسخ ; لاحتمال أنه انتهاء لمدة الفعل الأول . قال : وهذا محتمل فيتوقف في كونه ناسخا ، ونعلم انتهاء ذلك الحكم قطعا ; لأن النسخ رفع . قال : وذهب مجاهد إلى أنه نسخ ، وتردد في القول الطارئ على الفعل . قال الغزالي : ولا وجه لهذا الفرق ، والأصح ما ذكره القاضي ، وأطلق إلكيا عدم تصور تعارض الفعلين ، ثم استثنى من ذلك ما إذا علم بدلالة أنه أريد به إدامته في المستقبل ، فإنه يكون ما بعده ناسخا له . قال : وعلى مثله بنى الشافعي مذهبه في سجود السهو قبل السلام وبعده . فقال : وإن اختلفت الأخبار في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، ولكن كان آخر الأمرين على ما رواه الزهري قبل السلام ، وكان يؤخذ من [ ص: 45 ] مراسيم الرسول بالأحدث فالأحدث . واستثنى ابن القشيري من الأفعال ما وقع بيانا ، كقوله : { ( صلوا كما رأيتموني أصلي ) } فآخر الفعلين ينبغي أن ينسخ الأول ، كآخر القولين ; لأن هذا الفعل بمثابة القول . ا هـ . وهذا من صور ما ذكره إلكيا . وصرح ابن القشيري عن القاضي بأن الأفعال التي لا يقع فيها التعارض هي المطلقة التي لم تقع موقع البيان من الرسول ، وهي التي يتوقف فيها الواقفية ، فلا يتحقق فيها التعارض ، فإن الأفعال صيغ فيها ، ولا يتصور تعارض الذوات والأفعال المتغايرة الواقعة في الأوقات ، ولم تقع موقع البيان ليصرف التعارض إلى موجبات الأحكام .

                                                      وأما الأفعال الواقعة موقع البيان ، فإذا اختلفا وتنافيا ، ولم يمكن الجمع بينهما في الحكم ، فالتعارض في موجبهما كالتعارض في موجب القولين . قال : ولا يرجع التعارض إلى ذاتي الفعلين ، بل التلقي والبيان المنوط بهما ، وكذلك لا يتحقق التعارض في معنى القولين ، وإنما يتحقق في الحكم المستفاد من ظاهرهما . ثم قال : وحاصل ما نقول عند تعارض الفعلين تجويزهما إذا لم يكن في أحدهما ما يتضمن حظرا ، سواء تقدم أحدهما أم لا . قال : وهذا ظاهر في نظر الأصولي ; لأن الأفعال لا صيغ لها . ثم فصل ابن القشيري بين ما يقع بيانا ، وما لا يقع بيانا ، كقوله : { صلوا كما رأيتموني أصلي } فآخر الفعلين ينبغي أن ينسخ الأول كآخر القولين ; لأن هذا الفعل بمثابة القول ، وأما ما ليس بيانا فإن كان في مساق القرب فالاختيار أنه على الندب ، فليجر ذلك في آخر الفعلين ; لأنه ناسخ للمتقدم ، كالقولين المؤخرين . [ ص: 46 ]

                                                      وقد نقل عن الزهري أنه سجد عليه السلام قبل السلام وبعده ، وكان آخر الأمرين منه قبل ، فرأى العلماء الأخذ بذلك أولى ، ثم قال تبعا لإمام الحرمين : وذهب كثير من الأئمة فيما إذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلان مؤرخان مختلفان أن الواجب التمسك بآخرهما ، واعتقاد كونه ناسخا للأول . وقال : وقد ظهر ميل الشافعي إلى هذا ، فإنه قال في صلاة ذات الرقاع : صح فيها رواية ابن عمر ورواية خوات . ثم رأى الشافعي رواية خوات متأخرة ، وقدر ما رواه ابن عمر في غزوة سابقة . وربما سلك مسلكا آخر فسلم اجتماع الروايتين في غزوة واحدة ، ورآهما متعارضين ، ثم رجح أحدهما ، فرجح رواية خوات لقربها من الأصول ، فإن فيها قلة الحركة والأفعال ، وهي أقرب إلى الخضوع والخشوع . وفيما قاله نظر ، بل كلام الشافعي في " الرسالة " يقتضي عكس ذلك ، فإنه قال : وخوات متقدم الصحبة والسن ، فجعل ذلك مرجحا على رواية ابن عمر . وصرح قبله بأنه رجحها لموافقة ظاهر القرآن ، وأنه أقوى في مكايدة العدو .

                                                      ونقل إلكيا في مثل هذا عن الشافعي أنه يتلقى منهما جواز الفعلين ، ويحتاج في تفضيل أحدهما على الآخر إلى دليل . قال إلكيا : وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره ، وهذا ما نقله إمام الحرمين عن القاضي أبي بكر . وقال : إنه ظاهر نظر الأصوليين . [ ص: 47 ] وقال الغزالي في " المنخول " : المختار [ إن ] اتفق الفقهاء على صحة الفعلين ، واختلفوا في الأفضل [ توقفنا في الأفضل ] ، وإن ادعى كل فريق [ يتمسك ] برواية بطلان مذهب صاحبه [ فيتوقف ] ولا يفهم الجواز فيهما ، [ فإنهما ] متعارضان ، ويعلم أن الواقع [ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ] أحدهما ، ولا يرجح ، وإن اتفقوا على صحة واحد [ فنحكم به ونتوقف ] في الآخر . والشافعي إنما قال ذلك في صلاة الخسوف ، وقد رجح إحدى الروايتين [ لقربه ] إلى هيئة الصلاة .

                                                      وقال المازري : إذا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلان ، ولم يمكن تأويل أحدهما طلب التأريخ حتى يعلم الآخر ، فيكون هو الناسخ ، كتعارض القولين . هذا مذهب الجمهور ، ورأى القاضي أن النسخ هاهنا لا ضرورة إليه كما دعت في الأقوال ; لأن الفعل مقصور على فاعله لا يتعداه ، وليس كالصيغ المشتملة على معان متضادة . فإذا وجدنا فعلين متعارضين ، حملناهما على التجويز والإباحة . وهذا فيه نظر ، إلا على رأي من يقول : إن فعله يدل على الإباحة ، وليس القاضي من القائلين به ، والصحيح اتباع آخر الفعلين . قال : وادعى إمام الحرمين أنه قول الشافعي ; لأنه قدم في صلاة الخوف رواية خوات على رواية ابن عمر ; لتأخر رواية خوات ، فإنها في غزوة ذات الرقاع ، ورواية ابن عمر في غيرها ، ونازعه المازري باحتمال أن رواية ابن عمر متأخرة عنها . قال : ولهذا قال الإمام بعده : يحتمل أن يكون الشافعي قدم رواية خوات لضرب من الترجيح ، وفي التعادل بينهما نظر ، فذكره . قال : وأشار الإمام إلى أن المختار ما قاله الفقهاء من الأخذ بآخر الأمرين تاريخا ، وإن كان لا يقطع بذلك عن الصحابة ، والأظهر عنده من أفعالهم اتباع آخر الفعلين ، ولكن يمكن أن يكونوا ( رضي الله عنهم ) قدموا المتأخر تقدمة أولى وأفضل ، لا تقدمة ناسخ على منسوخ . ا هـ . [ ص: 48 ]

                                                      وهذه الطريقة تخالف ما سبق ; لأن الأولين لا يقولون بأن الفعل الثاني ناسخ للأول ، إلا إذا دل دليل خاص على تكرر هذا الفعل الخاص في حقه ، وحق الأمة ، فحينئذ إذا تركه بعد ذلك وأتى بمناقض له ، أو أقر أحدا من الأمة على عمل يناقضه ، كان ذلك مقتضيا لنسخ الثاني ، وعلى قول إمام الحرمين والمازري لا يحتاج إلى دليل خاص لذلك الفعل ، بل يكتفون بالأدلة الدالة على اقتداء الأمة بفعله عليه السلام مطلقا أو وجوبا أو ندبا أو إباحة على اختلاف الأحوال . فمتى وقع منه عليه السلام نقيض ذلك الفعل شرع للأمة الثاني أيضا ، كما كان الأول مشروعا لهم ، لكن هل يقتضي ذلك نسخ الأول وإزالة الحكم ، أو يكون كل من الفعلين جائزا ؟ والثاني هو الأول ؟ هذا هو محل نظر الإمام والمازري يميل إلى النسخ .

                                                      أما إذا نقل إلينا أخبار متعارضة في فعل واحد ، ولم يصح عندنا أحدها كيف كان ، فالمكلف مخير في الكل ، كسجود السهو قبل السلام أو بعده ، وإن اختلفت الروايات في رفع اليدين إلى المنكبين أو الأذنين ، فهنا يرجح ما يتأيد بالأصل ، فنرجح المنكبين ; لأن الأصل تقليل الأفعال في الصلاة ، وهذا أقل . فإن لم يوجد هذا الترجيح حكم بالتخيير ، كأخبار قبض الأصابع في التشهد .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية