الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه ومن يضلل الله فما له من هاد (36) ومن يهد الله فما له من مضل أليس الله بعزيز ذي انتقام (37) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون (38) قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون (39) من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم (40) إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (41) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (42) أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون (43) قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون (44) وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (45) [ ص: 3052 ] قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون (46) ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون (47) وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون (48) فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا .قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون (49) قد قالها الذين من قبلهم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (50) فأصابهم سيئات ما كسبوا والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين (51) أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون (52)

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الجولة أوسع مقاطع السورة. وهي تتناول حقيقة التوحيد من جوانب متعددة في لمسات متنوعة. تبدأ بتصوير حقيقة القلب المؤمن وموقفه بإزاء قوى الأرض واعتداده بالقوة الوحيدة; واعتماده عليها دون مبالاة بسواها من القوى الضئيلة الهزيلة. ومن ثم ينفض يده من هذه القوى الوهمية ويكل أمره وأمر المجادلين له إلى الله يوم القيامة; ويمضي في طريقه ثابتا واثقا مستيقنا بالمصير.

                                                                                                                                                                                                                                      يتلو هذا بيان وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنه ليس وكيلا على العباد في هداهم وضلالهم. إنما الله هو المسيطر عليهم، الآخذ بناصيتهم في كل حالة من حالاتهم. وليس لهم من دونه شفيع فإن لله الشفاعة جميعا. وإليه ملك السماوات والأرض. وإليه المرجع والمصير.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يصف المشركين وانقباض قلوبهم عند ذكر كلمة التوحيد وانبساطها عند ذكر كلمة الشرك. ويعقب على هذا بدعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى إعلان كلمة التوحيد خالصة، وترك أمر المشركين لله. ويصورهم يوم القيامة وهم يودون لو يفتدون بملء الأرض ومثله معه. وقد تكشف لهم من الله ما يذهل ويخيف!

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك. وهم يدعون الله وحده إذا أصابهم الضر. فإذا وهبهم منه نعمة ادعوا دعاوى عريضة وقال قائلهم: إنما أوتيته على علم عندي! الكلمة التي قالها الذين من قبلهم فأخذهم الله القادر على أن يأخذ هؤلاء. وما هم بمعجزين. وما كان بسط الرزق وقبضه إلا سنة من سنن الله، تجري وفق حكمته وتقديره وهو وحده الباسط القابض: إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ..

                                                                                                                                                                                                                                      أليس الله بكاف عبده؟ ويخوفونك بالذين من دونه. ومن يضلل الله فما له من هاد. ومن يهد الله فما له من مضل. أليس الله بعزيز ذي انتقام؟ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله. قل: أفرأيتم ما تدعون من دون الله، إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته؟ قل: حسبي الله، عليه يتوكل المتوكلون. قل: يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب [ ص: 3053 ] يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الآيات الأربع تصور منطق الإيمان الصحيح، في بساطته وقوته، ووضوحه، وعمقه كما هو في قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكما ينبغي أن يكون في قلب كل مؤمن برسالة، وكل قائم بدعوة. وهي وحدها دستوره الذي يغنيه ويكفيه، ويكشف له الطريق الواصل الثابت المستقيم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد ورد في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آلهتهم، ويحذرونه من غضبها، وهو يصفها بتلك الأوصاف المزرية بها، ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى..

                                                                                                                                                                                                                                      ولكن مدلول هذه الآيات أوسع وأشمل. فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الأرض من قوى مضادة. كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن، بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                                      أليس الله بكاف عبده ؟

                                                                                                                                                                                                                                      بلى! فمن ذا يخيفه، وماذا يخيفه؟ إذا كان الله معه؟ وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام؟ ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده؟

                                                                                                                                                                                                                                      ويخوفونك بالذين من دونه ..

                                                                                                                                                                                                                                      فكيف يخاف؟ والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله. وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله؟

                                                                                                                                                                                                                                      إنها قضية بسيطة واضحة، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن.. إنه الله. ومن هم دون الله. وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه.

                                                                                                                                                                                                                                      وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة. وهو الذي يقضي في العباد قضاءه. في ذوات أنفسهم، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم:

                                                                                                                                                                                                                                      ومن يضلل الله فما له من هاد. ومن يهد الله فما له من مضل ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله، ومن يستحق الهدى فيهديه. فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء.

                                                                                                                                                                                                                                      أليس الله بعزيز ذي انتقام؟ بلى. وإنه لعزيز قوي. وإنه ليجازي كلا بما يستحق. وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام. فكيف يخشى أحدا أو شيئا من يقوم بحق العبودية له، وهو كافله وكافيه؟

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية