الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 336 ] 983 - باب بيان مشكل الصحيح من ما اختلف فيه أهل العلم من هبة المرأة نفسها من رجل على سبيل التزويج ، هل يكون ذلك تزويجا ، أو لا يكون تزويجا ، وما روي فيه من الآثار .

6063 - حدثنا الحسين بن نصر بن المبارك البغدادي ، والحسن بن غليب بن سعد الأزدي قالا : حدثنا يوسف بن عدي الكوفي ، حدثنا علي بن مسهر ، عن هشام بن عروة .

عن أبيه قال : كان يقال : إن خولة بنت حكيم وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت من المهاجرات الأول ، قالت عائشة - رضي الله عنها - : كنت إذا ذكرت ، قلت : إني لأستحيي من امرأة تهب نفسها لرجل بغير مهر ، وكانت من أغير الناس ، وفيها نزلت هذه الآية : ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء . قلت : يا رسول الله ، إن ربك ليسارع في هواك .

[ ص: 337 ]

6064 - وحدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس ، حدثنا هناد بن السري ، حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه .

عن عائشة أنها كانت تقول : أما تستحيي امرأة أن تهب نفسها لرجل حتى أنزل الله تعالى : ترجي من تشاء منهن الثلاث آيات . قلت : إن ربك ليسارع لك في هواك .

6065 - وحدثنا أحمد بن شعيب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك ، أخبرنا أبو أسامة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه .

عن عائشة قالت : كنت أغار على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقول : أتهب امرأة نفسها لرجل ؟ فأنزل الله تعالى قوله : ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك . قلت : والله ما أرى ربك إلا يسارع لك في هواك .

[ ص: 338 ] وهذه مسألة من الفقه يختلف أهلها فيها ; فتقول طائفة منهم : إذا وهبت المرأة نفسها لرجل على سبيل تمليكه إياه بضعها ، وقبل ذلك منها بمحضر من الشهود لذلك ، كان ذلك تزويجا ، فإن كان سمى لها صداقا في ذلك كان لها المسمى ، وإن لم يسم لها صداقا كان لها صداق مثلها ، فإن طلقها قبل أن يدخل بها كان لها عليه المتعة .

وممن كان يقول ذلك منهم : أبو حنيفة ، وسفيان بن سعيد الثوري ، وسائر أصحاب أبي حنيفة .

وتقول طائفة منهم : إذا وهب الرجل ابنته الصغيرة لرجل ليحصنها ، وليكفيها على وجه النظر لها كان ذلك جائزا ، وإن وهبها بصداق ذكره كان ذلك نكاحا بعد أن يكون أراد بالهبة النكاح ، وممن قال ذلك عبد الرحمن بن القاسم على معاني قول مالك .

وتقول طائفة منهم : النكاح والتزويج لا يعقد بهبة عقدها ، وممن كان يقول ذلك منهم الشافعي .

قال أبو جعفر : فتأملنا ما اختلفوا فيه من ذلك ، فوجدنا الله تعالى قد قال في كتابه : وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها ، فجعل الله عز وجل تلك الهبة نكاحا بلا صداق جائزا ، ثم أعقب ذلك فقال : خالصة لك من دون المؤمنين [ ص: 339 ] ، فاحتمل أن يكون ما أخلصه عز وجل ، وجعله له الهبة ، نكاحا بلا صداق يكون عليه فيه ، ويكون مثله لغيره نكاحا يوجب عليه الصداق ، فإن كان كذلك ثبت ما قد ذكرناه عن الشافعي في ذلك ، وفي الآية التي تلونا : إن أراد النبي أن يستنكحها ، أي بالهبة التي كانت منها له .

ففي ذلك ما قد دل أن الهبة له صلى الله عليه وسلم قد كان له نكاحا ، والتخصيص فلا يكون إلا بآية مسطورة أو سنة مأثورة ، أو بإجماع من أهل العلم على ذلك ، وإذا لم يكن ذلك موجودا كانت على عمومها إلا ما أجمع عليه من الخصوص منها .

وتأملنا قول الشافعي : إن الله عز وجل سمى النكاح في كتابه باسمين ; النكاح ، والتزويج ، فلم يكن التزويج إلا بهما ، فكان من جواب مخالفيه له في ذلك : أنهم قد وجدوا الطلاق ذكره الله عز وجل في كتابه بالطلاق ، والفراق ، والسراح ، ولم يذكره بما سواهن ، وأجمع أهل العلم أن ذلك ليس بتخصيص للطلاق بهذه الثلاثة الأسماء ، ولا يكون بما سواها ، بل قد جعلوه بهذه الأسماء ، وبالخلع ، والخلية ، والبرية ، والبائن ، والحرام .

وإذا كان الطلاق لم تلحقه الخصوصية بقول الله إياه في كتابه إلا بالثلاثة أشياء التي ذكرها به ، وألحقوا بها ما سواها مما معانيها كمعانيها ، كان كذلك النكاح لا يكون قول الله عز وجل ذكره في كتابه بخلاف الاسمين اللذين ذكرهما فيه ، ويكون بما معناه معناهما لاحقا بهما ، ولما كانت الهبة من الزوج للمرأة بضعها كالنكاح يقوم ذلك مقام [ ص: 340 ] الطلاق كمثلها إذا أراد به الطلاق كان مثل ذلك هبتها بضعها له يكون ذلك كالنكاح الذي يعقده له على بضعها ، وتكون الهبة من كل واحد منهما لصاحبه فيما ذكرنا في حكم التمليك ، كما تكون الهبة من الآخر له كذلك أيضا .

وقد روي عن سعيد بن المسيب في هذا الباب .

ما قد حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثني عبد الله بن بريدة مولى الأسود قال : سألت سعيد بن المسيب عن رجل بشر بجارية ، فقال له رجل من القوم : هبها إلي . فوهبها له ، فقال سعيد بن المسيب : لم تحل الهبة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو أصدقها سوطا لحلت له .

فدل ذلك أن الهبة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اختص بها كان عند سعيد بن المسيب على الهبة التي لا صداق عليه فيها ، وإن من سواه صلى الله عليه وسلم في الهبة يكون بها ناكحا بصداق يجب عليه فيها كما يجب عليه في تزويج لو نكح بلا صداق ذكره فيه .

وفي حديث عائشة معنى يجب أن يتأمل ، وهو قولها : إني لأستحيي من امرأة تهب نفسها لرجل بغير مهر ، ولم تقصد بذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بل عمت به الرجال ، إن كان ذلك خرج منها مخرج النكرة ، [ ص: 341 ] والنكرة تعم الناس جميعا ، فكان قولها هذا قد دل على أنها تستحيي لامرأة تهب نفسها لرجل بغير مهر ، فدخل في ذلك الناس جميعا ، فكان في ذلك ما قد دل أن من وهبت نفسها من النساء لأحد من الرجال كان به زوجا ، وفي ذلك ما قد دل على أن الخصوصية إنما كانت في كونها زوجة للنبي صلى الله عليه وسلم بغير صداق ، فلا يكون تزويجا لغير النبي صلى الله عليه وسلم ، كما كانت تزويجا للنبي صلى الله عليه وسلم بلا صداق ، ويكون لغيره بصداق يجب معها ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية