الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ شروط حجية التقرير ] إذا ثبت هذا فإنما يكون التقرير حجة بشروط . أحدها : أن يعلم به ، فإن لم يعلم به لا يكون حجة ، وهو ظاهر من لفظ التقرير ، وخرج من هذا ما فعل في عصره مما لم يطلع عليه غالبا ، كقولهم : كنا نجامع ونكسل ، وما فعل في عهده عليه السلام ، ولم يعلم انتشاره انتشارا يبلغ النبي عليه السلام ، فهل يجعل ذلك سنة وشريعة من شرائعه ؟ جزم الشيخ أبو إسحاق في الملخص " بأنه لا يدل ، وقال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في [ ص: 57 ] شرح الترتيب " : اختلف قول الشافعي فيه ، ولهذا قال في الأقط : هل يجوز في الفطرة أم لا ؟ على قولين ; لأنه لم يكن قد علم أنه بلغ النبي عليه السلام ما كانوا يخرجونه في الزكاة في الأقط ; لأنه روي عن بعض الصحابة أنه قال : { كنا نخرج على عهد النبي صلى الله عليه وسلم صاعا من أقط } ، فعلق الشافعي القول في هذا على وجهين . ا هـ . وقال ابن السمعاني : إذا قال الصحابي : كانوا يفعلون كذا ، وأضافه إلى عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان مما لا يخفى مثلهحمل على الإقرار ، ويكون شرعا لنا ، وإن كان مثله يخفى ، فإن تكرر منه ذكره حمل على إقراره ; لأن الأغلب فيما كثر أنه لا يخفى ، كقول أبي سعيد : { كنا نخرج صدقة الفطر في زمن النبي عليه السلام صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير ، أو صاعا من بر } قال : وعلى هذا إذا خرج الراوي الرواية مخرج الكثير بأن قال : كانوا يفعلون كذا ، حملت الرواية على عمله وإقراره ، وصار كالمنقول شرعا ، وإن تجرد عن لفظ التكثير ، كقوله : فعلوا كذا فهو محتمل ، ولا يثبت شرع باحتمال . أما إذا أضافه إلى عصر الصحابة أو أطلق فسيأتي .

                                                      الشرط الثاني : أن يكون قادرا على الإنكار ، كذا قال ابن الحاجب وغيره ، وفيه نظر . فقد ذكر الفقهاء من خصائصه عدم سقوط وجوب تغيير المنكر بالخوف على النفس ، وعدم السقوط في الحقيقة ; لأنه لا يقع منه خوف على نفسه بعد إخبار الله بعصمته في قوله : { والله يعصمك من الناس } قال القاضي أبو الطيب في تعليقه : وإنما اختص عليه السلام بوجوبه لأمرين . أحدهما : أن الله ضمن له النصر والظفر بقوله : { إنا كفيناك [ ص: 58 ] المستهزئين } الثاني : أنه لو لم ينكره لكان يوهم أن ذلك جائز ، وإلا لأمر بتركه . ا هـ .

                                                      وحينئذ فلا يعقل هذا الشرط . الشرط الثالث : كون المقر على الفعل منقادا للشرع ، سامعا مطيعا ، فالممتنع كالكافر لا يكون التقرير في حقه دالا على الإباحة ، وألحق به إمام الحرمين المنافق ، ونازعه المازري ; لأنا نجري عليه الأحكام ظاهرا ، وهو كما قال ; لأنه من أهل الالتزام والانقياد في الجملة ، وحكى الغزالي في المنخول " في تقرير المنافق خلافا ، ومال إلكيا إلى ما قاله إمامه . قال : ; لأنه عليه السلام كان كثيرا ما يسكت عن المنافقين علما منه أن العظة لا تنفع معهم ، وإن كان العذاب حقيقا بهم ، وشرط ابن أبي هريرة في تعليقه كون التقرير بعد ثبوت الشرع ، وأما ما كان يقر عليه قبل استقرار الشرع ، حين كان داعيا إلى الإسلام فلا ، وهذا يرجع إلى الثاني ، وشرط ابن السمعاني أن لا يتقدم تقريره إنكار سابق قال : وإذا ذم الرسول فاعلا بعد إقراره على فعل مثله ، دل على حظره بعد إباحته ، وإن كان الآخر هو الذم بعد الإقرار ، دل على الحظر بعد الإباحة . قال : وإذا علم من حال مرتكب المنكر أن الإنكار عليه يزيده إغراء على مثله ، فإن علم به غير الرسول لم يجب عليه الإنكار ; لئلا يزداد من المنكر بالإغراء ، وإن علم به الرسول ففي إنكاره وجهان . أحدهما : لا يجب لما ذكر ، وهو قول المعتزلة . والثاني : يجب إنكاره ليزول بالإنكار توهم الإباحة . قال : وهذا الوجه [ ص: 59 ] أظهر ، وهو قول الأشعرية ، وعليه يكون الرسول مخالفا لغيره ; لأن الإباحة والحظر شرع مختص بالرسول دون غيره ، وشرط ابن القشيري أن لا نجد للسكوت محملا سوى التقرير ورفع الحرج . فلو كان مشتغلا ببيان حكم مستغرقا فيه ، فرأى إنسانا على أمر ولم يتعرض له ، فلا يكون تركه ذلك تقريرا إذ لا يمكنه تقرير جميع الموانع بمرة واحدة . قال : ولهذا أقول : ليس كل ما كان عليه الناس في صدر الشرع ، ثم تغير الأمر لا يدعى فيه النسخ ، بل إذا ثبت حكم شرعي ، ثم تغير فهو النسخ . فأما ما كان عليه الناس في الجاهلية ، ثم قرر الرسول فيه حكما ، فلا يقال : كان ذلك المتقدم شرعا مستمرا ثم نسخ ، إذ ربما لم يتفرغ الرسول لبيانه ، أو لم يتذكره .

                                                      مثاله : قول الخصم في نكاح المشركات : كان قد تقرر في ابتداء الإسلام انتفاء الحظر في المنكوحات ، ثم طرأ الحظر ، فنسخ ذلك الحكم ، وهذا مجازفة : إذ من الممكن أنهم كانوا ، ولم يكن ذلك شرعا ، بل جريا على حكم الجاهلية . ثم بين النبي عليه السلام أنه لا تجوز الزيادة على أربع بيانا مبتدأ ، وأما إذا أمكن أن يكون سكوته محمولا على أن جبريل عليه السلام لم يبين له بعد ذلك الحكم ، لم يقطع بمشروعية ذلك التقرير ، بل يقال بانتفاء الحكم إذ لا عثور فيه على شرع ; لاندراس الشرائع المتقدمة ، فهذا لا يقضى فيه بحكم أصلا . ا هـ .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية