الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

الهجرة المشروعة كقوله تعالى : والرجز فاهجر [المدثر :5] ، وقوله : وإذا رأيت الذين يخوضون [الأنعام :68] ، وقوله : وتول عنهم [الصافات :178] ، وقوله : واهجرهم هجرا جميلا [المزمل :10] ، وهجرة الصحابة إلى الحبشة ثم إلى المدينة ، وهجرة المسلم من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وهجرة الناس من دار الفجور والبدعة إلى دار البر والسنة ، وهجران المعلنين بالمعاصي والمظهرين للبدع ، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهجرة الثلاثة الذين خلفوا ، وأمر عمر بهجر صبيغ بن عسل ، وأمر الأئمة بهجران الدعاة إلى البدع بحيث لا يتخذون حكاما ولا شهودا ولا أئمة ولا مفتين ولا محدثين ، ولا يجالسون ولا يخاطبون ونحو ذلك . كل هذا له مقصودان :

أحدهما : اشتمال ذلك على أداء الواجبات وترك المحرمات ، فإن هجران الذنوب تركها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه » . والهجرة من دار الحرب ليتمكن المسلم من إقامة دينه ولوائه الجهاد . ولئلا يقع فيما هم فيه . وكذلك هجران قرناء السوء ، لئلا يرى القبيح ويسمعه فيكون شريكا لهم ، كما قال تعالى : إنكم إذا مثلهم [ ص: 75 ] [النساء :140] ، ولئلا يوقعوه في بعض ذنوبهم ، فإن «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل » . فالأول يكون بترك مخالطتهم وقت الذنوب ، وإن خولطوا في غيرها للضرورة . والثاني يكون بترك عشرتهم مطلقا ، فإن المعاشرة قد تجر إلى القبيح ، فمن كان مضطرا إلى معاشرتهم أو كان هو الحاكم عليهم دينا ودنيا فهذا لا ينهى عن المعاشرة ، بخلاف . . . . . . . . الذين قد يفسدون عقله أو دينه أو نحو ذلك .

المقصود الثاني : تضمنها نهي المهجور وتعزيره وعقوبته فيكون جزاء له . . . . . . . له ولغيره من ضربائه ، كسائر أنواع التعزير والعقوبات المشروعة . فهذه الهجرة من جنس العقوبات والتعزيرات لتنكيل المهجور وغيره على ذلك الذنب ، وتلك الهجرة من جنس التقوى والاحتراز عن مواقعة المحظور [ات] البدعية والفجورية ، فالأولى تحقيق التقوى ، والثانية تحقيق الجهاد ، فالأولى من فعل الذين هاجروا ، والثانية من فعل الذين جاهدوا . إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض [الأنفال :72] . [ ص: 76 ]

ولهذا لا يصلح . . . . . . إلا مع المكنة والقدرة ، كما لا تصلح المعاقبة إلا للقادر المتمكن ، بخلاف الأولى . ولهذا كانت الأولى مشروعة بمكة ، والثانية إنما شرعت بالمدينة بعد تبوك لما كان الإسلام في غاية القوة ، فإن الثانية تتضمن ترك السلام عليه وترك عيادته وتقديمه في شيء من المراتب الدينية ، كالإمامة والحكم والشهادة والحديث والفتوى .

وهذا إذا كان ممن يؤثر في المهجور حصول المنفعة ، وربما كان فيه منفعة ومضرة فيراعى ما غلب منهما ، وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأوقات ، وتختلف فيه الاجتهادات ، وقد يستغنى عن الهجرة بالتأليف . فالغرض النهي عن المنكر بأقرب الطرق ، وتحصيل المعروف على أكمل الوجه . والله أعلم .

وأهل السنة والحديث يهجرون الداعية إلى البدع من الكلام أو الرأي أو العيادة ، ولهذا كان أهل السنة قد تجنبوا فيها الرواية عن الدعاة إلى البدع عندهم من أهل الكلام كعمرو بن عبيد وغيره ، ومن أهل الرأي كأهل الرأي من أهل الكوفة ، وهو فعل أحمد بن حنبل معهم ، وهذا تفصيله مذكور في غير هذا الموضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية