الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين

قوله تعالى : إن يمسسكم قرح القرح الجرح . والضم والفتح فيه لغتان عن الكسائي والأخفش ، مثل عقر وعقر . الفراء : هو بالفتح الجرح ، وبالضم ألمه . والمعنى : إن يمسسكم يوم أحد قرح فقد مس القوم يوم بدر قرح مثله . وقرأ محمد بن السميقع " قرح " بفتح القاف والراء على المصدر .

وتلك الأيام نداولها بين الناس قيل : هذا في الحرب ، تكون مرة [ ص: 207 ] للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه ، ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم ; فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون . وقيل : نداولها بين الناس من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر . والدولة الكرة ; قال الشاعر :


فيوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر



وليعلم الله الذين آمنوا معناه ، وإنما كانت هذه المداولة ليرى المؤمن من المنافق فيميز بعضهم من بعض ; كما قال : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين وليعلم الذين نافقوا وقيل : ليعلم صبر المؤمنين ، العلم الذي يقع عليه الجزاء كما علمه غيبا قبل أن كلفهم . وقد تقدم في " البقرة " هذا المعنى .

قوله تعالى : ويتخذ منكم شهداء فيه ثلاث مسائل :

الأولى : قوله تعالى ويتخذ منكم شهداء أي يكرمكم بالشهادة ; أي ليقتل قوم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم . وقيل : لهذا قيل شهيد : وقيل : سمي شهيدا لأنه مشهود له بالجنة وقيل : سمي شهيدا لأن أرواحهم احتضرت دار السلام ، لأنهم أحياء عند ربهم ، وأرواح غيرهم لا تصل إلى الجنة ; فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة ، وهذا هو الصحيح على ما يأتي والشهادة فضلها عظيم ، ويكفيك في فضلها قوله تعالى : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم الآية . يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم إلى قوله : ذلك الفوز العظيم وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة . وروى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد ؟ قال : كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة . وفي البخاري : " من قتل من المسلمين يوم أحد " منهم حمزة واليمان والنضر بن أنس ومصعب بن عمير ، حدثني عمرو بن علي أن معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة قال : ما نعلم حيا [ ص: 208 ] من أحياء العرب أكثر شهيدا أعز يوم القيامة من الأنصار . قال قتادة : وحدثنا أنس بن مالك أنه قتل منهم يوم أحد سبعون ، ويوم بئر معونة سبعون ، ويوم اليمامة سبعون . قال : وكان بئر معونة على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوم اليمامة على عهد أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب . وقال أنس : أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بعلي بن أبي طالب وبه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية ، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسحها وهي تلتئم بإذن الله تعالى كأن لم تكن .

الثانية : في قوله تعالى : ويتخذ منكم شهداء دليل على أن الإرادة غير الأمر كما يقول أهل السنة ; فإن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين : حمزة وأصحابه وأراد قتلهم ، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأراده فواقعه آدم ، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده فامتنع منه ; وعنه وقعت الإشارة بقوله الحق : ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم . وإن كان قد أمر جميعهم بالجهاد ، ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير فقعدوا .

الثالثة : روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر فقال له : ( خير أصحابك في الأسارى إن شاءوا القتل وإن شاءوا الفداء على أن يقتل منهم عام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا ) أخرجه الترمذي وقال : حديث حسن . فأنجز الله وعده بشهادة أوليائه بعد أن خيرهم فاختاروا القتل . والله لا يحب الظالمين أي المشركين ، أي : وإن أنال الكفار من المؤمنين فهو لا يحبهم ، وإن أحل ألما بالمؤمنين فإنه يحب المؤمنين .

التالي السابق


الخدمات العلمية