الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب قتل المولى لعبده وقد اختلف في قتل المولى لعبده ، فقال قائلون ، وهم شواذ : يقتل به . وقال عامة الفقهاء : لا يقتل به . فمن قتله احتج بظاهر قوله تعالى : كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر على نحو ما احتججنا به في قتل الحر بالحر ، وقوله : النفس بالنفس وقوله : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه وقوله صلى الله عليه وسلم : المسلمون تتكافأ دماؤهم وقد روي حديث عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه .

أما ظاهر الآي فلا حجة لهم فيها ؛ لأن الله تعالى إنما جعل القصاص فيها للمولى بقوله تعالى : ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا وولي العبد هو مولاه في حياته ، وبعد وفاته ؛ لأن العبد لا يملك شيئا ، وما يملكه فهو لمولاه لا من جهة الميراث لكن من جهة الملك ، فإذا كان هو الولي لم يثبت له القصاص على نفسه ، وليس هو بمنزلة من قتل وارثه فيجب عليه القصاص ، ولا يرثه ؛ لأن ما يحصل للوارث إنما ينتقل عن ملك المورث إليه ، والقاتل لا يرث فوجب عليه القصاص لغيره ، والعبد لا يملك شيئا فينتقل إلى مولاه ، ألا ترى أنه لو قتل ابن العبد لم يثبت له القصاص على قاتله ؛ لأنه لا يملك ؟ فكذلك لا يثبت له القصاص على غيره . ومتى وجب له القود على قاتله فإنما يستحقه مولاه دونه ، فلم يجز من أجل ذلك إيجاب القصاص على مولاه بقتله إياه . ويدل على أن العبد لا يثبت له ذلك قوله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء فنفى بذلك ملك العبد نفيا عاما عن كل شيء ، فلم يجز أن يثبت له بذلك على أحد شيء .

وإذا لم يجز أن يثبت له ذلك لأجل أنه ملك لغيره ، والمولى [ ص: 170 ] إذا استحق ما يجب له فلا يجب له القود على نفسه ، وليس العبد في هذا كالحر ؛ لأن الحر يثبت له القصاص ثم من جهته ينتقل إلى وارثه ، ولذلك يستحقونه بينهم على قدر مواريثهم ، فمن حرم ميراثه بالقتل لم يرثه القود فكان القود لمن يرثه .

فإن قيل : ليس دم العبد في هذا الوجه كماله ؛ لأن المولى لا يملك قتله ، ولا الإقرار عليه بالقتل فهو بمنزلة الأجنبي فيه . قيل له : إن كان المولى لا يملك قتله ، ولا الإقرار عليه به ولكنه ولي ، وهو المستحق للقصاص على قاتله إذا كان أجنبيا ، من حيث كان مالكا لرقبته لا من جهة الميراث ، ألا ترى أنه المستحق للقود على قاتله دون أقربائه ؟ فدل ذلك على أنه يملك القود به كما يملك رقبته . فإذا كان هو القاتل لم يجز أن يستحق القود غيره عليه ، فاستحال من أجل ذلك وجوب القود له على نفسه .

وأيضا فقوله فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه لا يجوز أن يكون خطابا للمولى إذا كان هو المعتدي بقتل عبده ؛ لأنه وإن كان معتديا على نفسه بقتل عبده وإتلاف ملكه فغير جائز خطابه باستيفاء القود من نفسه وغير جائز أن يكون غيره مخاطبا باستيفاء القود منه ؛ لأنه غير معتد عليه ، والله تعالى إنما أوجب الحق لمن اعتدي عليه دون غيره .

فإن قال قائل : يقيد الإمام منه كما يقيد ممن قتل رجلا لا وارث له . قيل له : إنما يقوم الإمام بما ثبت من القود لكافة المسلمين إذا كانوا مستحقين لميراثه ، والعبد لا يورث فيثبت الحق في الاقتصاص من قاتله لكافة المسلمين ، ولا جائز أن يثبت ذلك للإمام ألا ترى أنه لو قتل العبد خطأ كان المولى هو المستحق لقيمته على قاتله دون سائر المسلمين ، ودون الإمام ، وأن الحر الذي لا وارث له لو قتل خطأ كانت ديته لبيت المال ؟ فكذلك القود لو ثبت على المولى لما استحقه الإمام ، ولكان المولى هو الذي يستحقه ، ويستحيل ثبوت ذلك له على نفسه فبطل .

وأما الحديث الذي روي فيه فهو معارض بضده ، وهو ما حدثنا ابن قانع قال : حدثنا المقبري قال : حدثنا خالد بن يزيد بن صفوان النوفلي قال : حدثنا ضمرة بن ربيعة ، عن ابن عباس ، وعن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا قتل عبده متعمدا فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ، ومحا سهمه من المسلمين ، ولم يقده به فنفى هذا الخبر ظاهر ما أثبته خبر سمرة بن جندب الذي احتجوا به ، مع موافقته لما ذكرنا من ظاهر الآي ومعانيها من إيجاب الله تعالى القود للمولى ، ومن نفيه لملك العبد بقوله لا يقدر على شيء ولو انفرد خبر سمرة عن معارضة الخبر الذي قدمناه لما جاز القطع به لاحتماله لغير ظاهره ، وهو [ ص: 171 ] أنه جائز أن يكون رجل أعتق عبده ثم قتله أو جدعه أو لم يقدم على ذلك ، ولكنه هدده به ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من قتل عبده قتلناه يعني عبده المعتق الذي كان عبده .

وهذا الإطلاق شائع في اللغة والعادة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لبلال حين أذن قبل طلوع الفجر : ألا إن العبد نام ، وقد كان حرا في ذلك الوقت ، وقال علي عليه السلام : " ادعوا لي هذا العبد الأبظر " يعني شريحا حين قضى في ابني عم أحدهما أخ لأم بأن الميراث للأخ من الأم ؛ لأنه كان قد جرى عليه رق في الجاهلية فسماه بذلك ، وقال تعالى : وآتوا اليتامى أموالهم والمراد الذين كانوا يتامى . وقال صلى الله عليه وسلم : تستأمر اليتيمة في نفسها يعني التي كانت يتيمة . ولا يمتنع أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : من قتل عبده قتلناه ما وصفناه فيمن كان عبدا فأعتق ، وزال بهذا توهم متوهم لو ظن أن مولى النعمة لا يقاد بمولاه الأسفل كما لا يقاد والد بولده . وقد كان جائزا أن يسبق إلى ظن بعض الناس أن لا يقاد به صلى الله عليه وسلم قد جعل حق مولى النعمة كحق الوالد ، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه فجعل عتقه لأبيه كفاء لحقه ومساويا ليده عنده ونعمته لديه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية