الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين

                                                                                                                                                                                                                                        قوله تعالى: وأيوب إذ نادى ربه أني الآية. حكى الحسن البصري: أن أيوب آتاه الله مالا وولدا فهلك ماله ، ومات أولاده ، فقال: رب قد أحسنت إلي الإحسان كله ، كنت قبل اليوم شغلني حب المال بالنهار ، وشغلني حب الولد بالليل ، فالآن أفرغ لك سمعي وبصري وليلي ونهاري بالحمد والذكر فلم ينفذ لإبليس فيه مكر ، ولا قدر له على فتنة ، فبلي في بدنه حتى قرح وسعى فيه الدود ، واشتد به البلاء حتى طرح على مزبلة بني إسرائيل ، ولم يبق أحد يدنو منه غير زوجته صبرت معه ، تتصدق وتطعمه ، وقد كان آمن به ثلاثة من قومه ، رفضوا عند بلائه ، وأيوب يزداد حمدا لله وذكرا ، وإبليس يجتهد في افتتانه فلا يصل إليه حتى شاور أصحابه ، فقالوا: أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة من أين أتيته؟ قال: من قبل امرأته ، فقالوا شأنك أيوب من قبل امرأته . قال: أصبتم ، فأتاها فذكر لها ضر أيوب بعد جماله وماله وولده ، فصرخت ، فطمع عدو الله فيها ، فأتاها بسخلة ، فقال ليذبح أيوب هذه السخلة لي ويبرأ ، فجاءت إلى أيوب فصرخت وقالت يا أيوب حتى متى يعذبك ربك ولا يرحمك؟ أين المال؟ أين الولد؟ أين لونك الحسن؟ قد بلي ، وقد تردد الدواب ، اذبح هذه السخلة واسترح. قال لها أيوب أتاك عدو الله فنفخ فيك فوجد فيك رفقا فأجبتيه؟ أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد والشباب والصحة من أعطانيه؟ فقالت : الله ، قال: فكم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة ، قال: منذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 462 ] فقالت: منذ سبع سنين وأشهر . قال: ويلك والله ما أنصفت ربك ، ألا صبرت حتى نكون في هذا البلاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة ، ثم طردها وقال: ما تأتيني به علي حرام إن أكلته ، فيئس إبليس من فتنته. ثم بقي أيوب وحيدا فخر ساجدا وقال: رب ، مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وفيه خمسة أوجه: أحدها: أن الضر المرض ، قاله قتادة .

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنه البلاء الذي في جسده ، قاله السدي ، حتى قيل إن الدودة كانت تقع من جسده فيردها في مكانها ويقول: كلي مما رزقك الله.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنه الشيطان كما قال في موضع آخر أني مسني الشيطان بنصب وعذاب [ص: 41] قاله الحسن.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: أنه وثب ليصلي فلم يقدر على النهوض ، فقال: مسني الضر ، إخبارا عن حاله ، لا شكوى لبلائه ، رواه أنس مرفوعا.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 463 ] الخامس: أنه انقطع الوحي عنه أربعين يوما فخاف هجران ربه ، فقال: مسني الضر ، وهذا قول جعفر الصادق رحمه الله. وفي مخرج قوله: مسني الضر أربعة أوجه: أحدها: أنه خارج مخرج الاستفهام ، وتقديره أيمسني الضر وأنت أرحم الراحمين.

                                                                                                                                                                                                                                        الثاني: أنت أرحم بي أن يمسني الضر.

                                                                                                                                                                                                                                        الثالث: أنه قال [ذلك] استقالة من ذنبه ورغبة إلى ربه.

                                                                                                                                                                                                                                        الرابع: أنه شكا ضعفه وضره استعطافا لرحمته ، فكشف بلاءه فقيل له: اركض برجلك هذا مغتسل بارد [ص: 42] فركض برجله فنبعت عين ، فاغتسل منها وشرب فذهب باطن دائه وعاد إليه شبابه وجماله ، وقام صحيحا ، وضاعف الله له ما كان من أهل ومال وولد. ثم إن امرأته قالت: إن طردني فإلى من أكله؟ فرجعت فلم تره ، فجعلت

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 464 ] تطوف وتبكي ، وأيوب يراها وتراه فلا تعرفه فلما سألته عنه وكلمته فعرفته ، ثم إن الله رحمها لصبرها معه على البلاء ، فأمره أن يضربها بضغث ليبر في يمينه ، قاله ابن عباس . وكانت امرأته ماخيرا بنت ميشا بن يوسف بن يعقوب. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم قال ابن مسعود: رد الله إليه أهله الذين أهلكهم بأعيانهم ، وأعطاه مثلهم معهم. قال الفراء : كان لأيوب سبع بنين وسبع بنات فماتوا في بلائه ، فلما كشف الله ضره رد عليه بنيه وبناته وولد له بعد ذلك مثلهم ، قال الحسن : وكانوا ماتوا قبل آجالهم فأحياهم الله فوفاهم آجالهم ، وأن الله أبقاه حتى أعطاهم من نسلهم مثلهم.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية