الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب انعقاد الجمعة بأربعين وإقامتها في القرى

                                                                                                                                            1188 - ( عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره عن أبيه كعب رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة ، قال : فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة ؟ قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له : نقيع الخضمات ، قلت : كم كنتم يومئذ ؟ قال : أربعون رجلا . رواه أبو داود وابن ماجه وقال فيه : كان أول من صلى بنا صلاة الجمعة قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي وصححه . قال الحافظ : وإسناده حسن ا هـ ، وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال مشهور . قوله : ( هزم النبيت ) هو بفتح الهاء وسكون الزاي : المطمئن من الأرض ، والنبيت بفتح النون وكسر الباء الموحدة وسكون الياء التحتية وبعدها تاء فوقية . قال في القاموس : هو أبو حي باليمن اسمه عمرو بن مالك ا هـ . والمراد به هنا موضع من حرة بني بياضة ، وهي قرية على ميل من المدينة . وبنو بياضة بطن من الأنصار .

                                                                                                                                            قوله : ( في نقيع ) هو بالنون ثم القاف ثم الياء التحتية بعدها عين مهملة . قوله : ( الخضمات ) بالخاء المعجمة وكسر الضاد المعجمة موضع معروف . قوله : ( أربعون رجلا ) استدل به من قال : إن الجمعة لا تنعقد إلا بأربعين رجلا ، وإلى ذلك ذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه ، وبه قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وعمر بن عبد العزيز .

                                                                                                                                            ووجه الاستدلال بحديث الباب أن الأمة أجمعت على اشتراط العدد ، والأصل الظهر ، فلا تصح الجمعة إلا بعدد أثبت بدليل ، وقد ثبت جوازها بأربعين فلا يجوز بأقل منه ، إلا بدليل صحيح . وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { صلوا كما رأيتموني أصلي } قالوا : ولم تثبت صلاته لها بأقل من أربعين . وأجيب عن ذلك : بأنه لا دلالة في الحديث على اشتراط الأربعين ، لأن هذه واقعة عين . وذلك أن الجمعة فرضت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة قبل الهجرة كما أخرجه الطبراني عن ابن عباس ، فلم يتمكن من إقامته هنالك من أجل الكفار ، فلما هاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة كتب إليهم يأمرهم أن يجمعوا فجمعوا ، واتفق أن عدتهم إذن كانت أربعين ، وليس فيه ما يدل على أن من دون الأربعين لا تنعقد بهم [ ص: 275 ] الجمعة .

                                                                                                                                            وقد تقرر في الأصول أن وقائع الأعيان لا يحتج بها على العموم . وروى عبد بن حميد وعبد الرزاق عن محمد بن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن تنزل الجمعة ، قالت الأنصار : لليهود يوم يجمعون فيه كل أسبوع ، وللنصارى مثل ذلك ، فهلم فلنجعل يوما نجمع فيه فنذكر الله تعالى ونشكره ، فجعلوه يوم العروبة ، واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسموا الجمعة حين اجتمعوا إليه ، فذبح لهم شاة فتغدوا وتعشوا منها ، فأنزل الله تعالى في ذلك بعد : { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } الآية .

                                                                                                                                            قال الحافظ : ورجاله ثقات إلا أنه مرسل . وقولهم : لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى الجمعة بأقل من أربعين ، يرده حديث جابر الآتي في باب انفضاض العدد لتصريحه بأنه لم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا . وما أخرجه الطبراني عن ابن مسعود الأنصاري قال : أول من قدم المدينة من المهاجرين : مصعب بن عمير ، وهو أول من جمع بها يوم الجمعة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم وهم اثنا عشر رجلا ، وفي إسناده صالح بن أبي الأخضر وهو ضعيف قال الحافظ : ويجمع بينه وبين حديث الباب بأن أسعد كان أميرا ومصعبا كان إماما .

                                                                                                                                            وما أخرجه الطبراني أيضا وابن عدي عن أم عبد الله الدوسية مرفوعا : { الجمعة واجبة على كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة } وفي رواية : { وإن لم يكونوا إلا ثلاثة رابعهم الإمام } وقد ضعفه الطبراني وابن عدي وفيه متروك . قال في التلخيص : وهو منقطع وأما احتجاجهم بحديث جابر عند الدارقطني والبيهقي بلفظ : { في كل أربعين فما فوقها جمعة وأضحى وفطر } ففي إسناده بعد تسليم أنه مرفوع عبد العزيز بن عبد الرحمن . قال أحمد : اضرب على أحاديثه فإنها كذب أو موضوعة . وقال النسائي ليس بثقة . وقال الدارقطني : منكر الحديث . وكان ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وقال البيهقي : هذا الحديث لا يحتج بمثله . ومن الغرائب ما استدل به البيهقي على اعتبار الأربعين وهو حديث ابن مسعود . قال : { جمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت آخر من أتاه ونحن أربعون رجلا ، فقال : إنكم مصيبون ومنصورون ومفتوح لكم } فإن هذه الواقعة قصد فيها النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع أصحابه ليبشرهم ، فاتفق أن اجتمع له منهم هذا العدد .

                                                                                                                                            قال السيوطي : وإيراد البيهقي لهذا الحديث أقوى دليل على أنه لم يجد من الأحاديث ما يدل للمسألة صريحا ا هـ . واعلم أن الخلاف في هذه المسألة منتشر جدا ، وقد ذكر الحافظ في فتح الباري خمسة عشر مذهبا ، فقال : وجملة ما للعلماء في ذلك خمسة عشر قولا : أحدها : تصح من الواحد نقله ابن حزم . قلت : وحكاه الدارمي عن القاشاني وصاحب البحر عن الحسن بن صالح .

                                                                                                                                            الثاني : اثنان كالجماعة ، هو قول النخعي وأهل الظاهر والحسن بن يحيى . الثالث : [ ص: 276 ] اثنان مع الإمام عن أبي يوسف ومحمد . قلت : وحكاه في شرح المهذب عن الأوزاعي وأبي ثور ، وحكاه في البحر عن أبي العباس وتحصيله للهادي والأوزاعي والثوري

                                                                                                                                            الرابع : ثلاثة معه عند أبي حنيفة قلت : وإليه ذهب المؤيد بالله وأبو طالب ، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي وأبي ثور ، واختاره المزني والسيوطي وحكاه عن الثوري والليث . الخامس : سبعة ، حكي عن عكرمة . السادس : تسعة ، عند ربيعة . السابع : اثنا عشر ، عنه في رواية . قلت : وحكاه عنه المتولي والماوردي في الحاوي ، وحكاه الماوردي أيضا عن الزهري والأوزاعي ومحمد بن الحسن .

                                                                                                                                            الثامن : مثله ، غير الإمام ، عند إسحاق . التاسع : عشرون ، في رواية ابن حبيب عن مالك . العاشر : ثلاثون ، في روايته أيضا عن مالك . الحادي عشر : أربعون بالإمام ، عند الشافعي . قلت : ومعه من قدمنا ذكرهم كما حكى ذلك السيوطي .

                                                                                                                                            الثاني عشر : أربعون غير الإمام ، روي عن الشافعي ، وبه قال عمر بن عبد العزيز وطائفة . الثالث عشر : خمسون ، عند أحمد ، وفي رواية كليب عن عمر بن عبد العزيز . الرابع عشر : ثمانون ، حكاه المازري . الخامس عشر : جمع كثير بغير قيد . قلت : حكاه السيوطي عن مالك قال الحافظ : ولعل هذا الأخير أرجحها من حيث الدليل

                                                                                                                                            واعلم أنه لا مستند لاشتراط ثمانين أو ثلاثين أو عشرين أو تسعة أو سبعة ، كما أنه لا مستند لصحتها من الواحد المنفرد . وأما من قال إنها تصح باثنين فاستدل بأن العدد واجب بالحديث والإجماع ، ورأى أنه لم يثبت دليل على اشتراط عدد مخصوص ، وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين ، ولا فرق بينها وبين الجماعة ، ولم يأت نص من رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الجمعة لا تنعقد إلا بكذا ، وهذا القول هو الراجح عندي وأما الذي قال بثلاثة فرأى العدد واجبا في الجمعة كالصلاة ، فشرط العدد في المأمومين المستمعين للخطبة .

                                                                                                                                            وأما الذي قال بأربعة فمستنده حديث أم عبد الله الدوسية المتقدم ، وقد تقدم أنه لا ينتهض للاحتجاج به . وله طريق أخرى عند الدارقطني وفيها متروكون . وله طريق ثالثة عنده أيضا وفيها متروك . قال السيوطي : قد حصل من اجتماع هذه الطرق نوع قوة للحديث وفيه أن الطرق التي لا تخلو كل واحدة منها من متروك لا تصلح للاحتجاج وإن كثرت . وأما الذي قال باثني عشر فمستنده حديث جابر في الانفضاض وسيأتي .

                                                                                                                                            وفيه أنه يدل على صحتها بهذا المقدار ، وأما أنها لا تصح إلا بهم فصاعدا إلا بما دونهم فليس في الحديث ما يدل على ذلك . وأما من قال باشتراط الخمسين فمستنده ما أخرجه الطبراني في الكبير والدارقطني عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الجمعة على الخمسين رجلا ، وليس على ما دون الخمسين جمعة } قال السيوطي : لكنه [ ص: 277 ] ضعيف ومع ضعفه فهو محتمل للتأويل ، لأن ظاهره أن هذا العدد شرط للوجوب لا شرط للصحة فلا يلزم من عدم وجوبها على ما دون الخمسين عدم صحتها منهم .

                                                                                                                                            وأما اشتراط جمع كثير من دون تقيد بعدد مخصوص فمستنده أن الجمعة شعار وهو لا يحصل إلا بكثرة تغيظ أعداء المؤمنين .

                                                                                                                                            وفيه أن كونها شعارا لا يستلزم أن ينتفي وجوبها بانتفاء العدد الذي يحصل به ذلك ، على أن الطلب لها من العباد كتابا وسنة مطلق على اعتبار الشعار فما الدليل على اعتباره ، { وكتبه صلى الله عليه وسلم إلى مصعب بن عمير أن ينظر اليوم الذي يجهر فيه اليهود بالزبور فيجمع النساء والأبناء ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة تقربوا إلى الله تعالى بركعتين } ، كما أخرجه الدارقطني من حديث ابن عباس ، غاية ما فيه أن ذلك سبب أصل المشروعية ، وليس فيه أنه معتبر الوجوب فلا يصلح للتمسك به على اعتبار عدد يحصل به الشعار وإلا لزم قصر مشروعية الجمعة على بلد تشارك المسلمين في سكونه اليهود وأنه باطل على أنه يعارض حديث ابن عباس المذكور ما تقدم عن ابن سيرين في بيان السبب في افتراض الجمعة وليس فيه إلا أنه كان اجتماعهم لذكر الله تعالى وشكره ، وهو حاصل من القليل والكثير بل من الواحد لولا ما قدمنا من أن الجمعة يعتبر فيها الاجتماع وهو لا يحصل بواحد .

                                                                                                                                            وأما الاثنان فبانضمام أحدهما إلى الآخر يحصل الاجتماع وقد أطلق الشارع اسم الجماعة عليهما ، فقال : الاثنان فما فوقهما جماعة ، كما تقدم في أبواب الجماعة ، وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع ، والجمعة صلاة فلا تختص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل ، ولا دليل على اعتبار عدد فيها زائد على المعتبر في غيرها . وقد قال عبد الحق إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث .

                                                                                                                                            وكذلك قال السيوطي : لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية