الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : إن الذين آمنوا . الآية . أخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله قال : إن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل؛ منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة، خرج إلى قوم مؤمنين في ديارهم وعقارهم وأموالهم . وفي [ ص: 213 ] قوله : والذين آووا ونصروا قال : آووا ونصروا وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة، وشهروا السيوف على من كذب وجحد، فهذان مؤمنان، جعل الله بعضهم أولياء بعض . وفي قوله : والذين آمنوا ولم يهاجروا قال : كانوا يتوارثون بينهم إذا توفي المؤمن المهاجر بالولاية في الدين، وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر، فبوأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية التي قال الله : ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق وكان حقا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قوتلوا، إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، ولا نصر لهم عليهم، إلا على العدو الذي لا ميثاق لهم، ثم أنزل الله تعالى بعد ذلك أن ألحق كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين آمنوا ولم يهاجروا، فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبا مفروضا لقوله : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين المسلمين من المهاجرين والأنصار، فآخى بين حمزة بن عبد المطلب وبين زيد بن حارثة، وبين عمر بن الخطاب ومعاذ ابن عفراء، وبين الزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وبين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله، وبين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع، وقال لسائر أصحابه : تآخوا وهذا أخي . يعني علي بن أبي طالب . قال : فأقام المسلمون على ذلك حتى نزلت سورة "الأنفال" وكان مما شدد الله به عقد نبيه صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا إلى قوله : لهم مغفرة ورزق كريم [ ص: 214 ] فأحكم الله تعالى بهذه الآيات العقد الذي عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، يتوارث الذين تآخوا دون من كان مقيما بمكة من ذوي الأرحام والقرابات، فمكث الناس على ذلك العقد ما شاء الله، ثم أنزل الله الآية الأخرى فنسخت ما كان قبلها، فقال : والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولو الأرحام والقرابات، ورجع كل رجل إلى نسبه ورحمه وانقطعت تلك الوراثة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن ابن عباس في قوله : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض يعني : في الميراث؛ جعل الله الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء ما لكم من ميراثهم شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين يعني : إن استنصر الأعراب المسلمون المهاجرين والأنصار على عدو لهم، فعليهم أن ينصروهم، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق فكانوا يعملون على ذلك حتى أنزل الله تعالى هذه الآية : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فنسخت التي قبلها، وصارت [ ص: 215 ] المواريث لذوي الأرحام .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو عبيد ، وأبو داود ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قال : كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن، ولا يرث الأعرابي المهاجر، فنسختها هذه الآية : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، عن عكرمة في قوله : والذين آمنوا ولم يهاجروا قال : لبث برهة والأعرابي لا يرث المهاجر، ولا المهاجر يرث الأعرابي، حتى فتحت مكة ودخل الناس في الدين أفواجا، فأنزل الله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والنحاس في "ناسخه"، وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله : والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا قال : نزلت هذه الآية فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر المسلم [ ص: 216 ] شيئا حتى نسخ ذلك بعد في سورة الأحزاب : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فخلط الله بعضهم ببعض، وصارت المواريث بالملل .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد، ومسلم ، عن بريدة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أو جيش، أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا وقال : اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم؛ ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله ثم قاتلهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والحاكم وصححه، عن أنس ، أن [ ص: 217 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال : جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن قتادة في قوله : وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق قال : نهي المسلمون عن أهل ميثاقهم، فوالله لأخوك المسلم أعظم عليك حرمة وحقا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية