الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: واتل عليهم قال الزجاج : هذا نسق على ما قبله ، والمعنى: [ ص: 287 ] أتل عليهم إذ أخذ ربك ، واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا وفيه ستة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن أبر ، قاله ابن مسعود . وقال ابن عباس : بلعم بن باعوراء . وروي عنه: أنه بلعام بن باعور ، وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، والسدي . وروى العوفي عن ابن عباس أن بلعما من أهل اليمن . وروى عنه ابن أبي طلحة أنه من مدينة الجبارين .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنه أمية بن أبي الصلت ، قاله عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسعيد بن المسيب ، وأبو روق ، وزيد بن أسلم ، وكان أمية قد قرأ الكتب ، وعلم أن الله مرسل رسولا ، ورجا أن يكون هو فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، حسده وكفر .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه أبو عامر الراهب ، روى الشعبي عن ابن عباس قال: الأنصار تقول: هو الراهب الذي بني له مسجد الشقاق ، وروي عن ابن المسيب نحوه .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنه رجل كان في بني إسرائيل ، أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، وكانت سمجة دميمة ، فقالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فدعا الله لها ، فلما علمت أنه ليس في بني إسرائيل مثلها ، رغبت عن زوجها وأرادت غيره ، فلما رغبت عنه ، دعا الله أن يجعلها كلبة نباحة ، فذهبت منه فيها دعوتان ، فجاء بنوها وقالوا: ليس بنا على هذا صبر أن صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها أولا ، فدعا الله ، فعادت كما كانت ، فذهبت فيها الدعوات الثلاث ، رواه عكرمة عن ابن عباس ، والذي روي لنا في هذا الحديث "وكانت سمجة" بكسر الميم ، وقد روى سيبويه عن العرب أنهم يقولون: رجل سمج: بتسكين الميم ، ولم يقولوا: سمج; بكسرها .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: أنه المنافق ، قاله الحسن .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 288 ] والسادس: أنه كل من انسلخ من الحق بعد أن أعطيه من اليهود والنصارى والحنفاء ، قاله عكرمة . وفي الآيات خمسة أقوال .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدها: أنه اسم الله الأعظم ، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني: أنها كتاب من كتب الله عز وجل . روى عكرمة عن ابن عباس قال: هو بلعام أوتي كتابا فانسلخ منه .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث: أنه أوتي النبوة ، فرشاه قومه على أن يسكت ، ففعل وتركهم على ما هم عليه ، قاله مجاهد ، وفيه بعد لأن الله تعالى لا يصطفي لرسالته إلا معصوما عن مثل هذه الحال .

                                                                                                                                                                                                                                      والرابع: أنها حجج التوحيد ، وفهم أدلته .

                                                                                                                                                                                                                                      والخامس: أنها العلم بكتب الله عز وجل . والمشهور في التفسير أنه بلعام ، وكان من أمره على ما ذكره المفسرون أن موسى عليه السلام غزا البلد الذي هو فيه ، وكانوا كفارا ، وكان هو مجاب الدعوة ، فقال ملكهم: ادع على موسى ، فقال: إنه من أهل ديني ، ولا ينبغي لي أن أدعو عليه ، فأمر الملك أن تنحت خشبة لصلبه ، فلما رأى ذلك ، خرج على أتان له ليدعو على موسى ، فلما عاين عسكرهم ، وقفت الأتان فضربها ، فقالت: لم تضربني ، وهذه نار تتوقد قد منعتني أن أمشي؟ فارجع ، فرجع إلى الملك فأخبره ، فقال: إما أن تدعو عليهم ، وإما أن أصلبك ، فدعا على موسى باسم الله الأعظم أن لا يدخل المدينة ، فاستجاب الله له ، فوقع موسى وقومه في التيه بدعائه ، فقال موسى: يا رب ، بأي ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم . فقال: يا رب ، فكما سمعت دعاءه علي ، فاسمع دعائي عليه ، فدعا الله أن ينزع منه الاسم الأعظم ، فنزع منه . وقيل إن بلعام أمر قومه أن [ ص: 289 ] يزينوا النساء ويرسلوهن في العسكر ليفشوا الزنا فيهم ، فينصروا عليهم . وقيل: إن موسى قتله بعد ذلك . وروى السدي عن أشياخه أن بلعم أتى إلى قومه متبرعا ، فقال: لا ترهبوا بني إسرائيل ، فإنكم إذا خرجتم لقتالهم ، دعوت عليهم فهلكوا ، فكان فيما شاء عندهم من الدنيا ، وذلك بعد مضي الأربعين سنة التي تاهوا فيها ، وكان نبيهم يوشع ، لا موسى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فانسلخ منها أي: خرج من العلم بها .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فأتبعه الشيطان قال ابن قتيبة: أدركه . يقال: اتبعت القوم: إذا لحقتهم ، وتبعتهم: سرت في أثرهم وقرأ طلحة بن مصرف: "فاتبعه" بالتشديد . وقال اليزيدي: أتبعه واتبعه: لغتان . وكأن "اتبعه" خفيفة بمعنى: قفاه ، و"اتبعه" مشددة: حذا حذوه . ولا يجوز أن تقول: أتبعناك ، وأنت تريد: اتبعناك ، لأن معناها: اقتدينا بك . وقال الزجاج : يقال: تبع الرجل الشيء واتبعه بمعنى واحد . قال الله تعالى: فمن تبع هداي [البقرة:38] وقال: فأتبعهم فرعون

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فكان من الغاوين فيه قولان .

                                                                                                                                                                                                                                      أحدهما: من الضالين ، قاله مقاتل . والثاني: من الهالكين الفاسدين ، قاله الزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية