الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      يحيى بن يحيى بن كثير

                                                                                      ابن وسلاس بن شملال بن منغايا ، الإمام الكبير ، فقيه الأندلس أبو محمد الليثي البربري المصمودي الأندلسي القرطبي .

                                                                                      مولده في سنة اثنتين وخمسين ومائة

                                                                                      [ ص: 520 ] سمع أولا من الفقيه زياد بن عبد الرحمن شبطون ، ويحيى بن مضر ، وطائفة .

                                                                                      ثم ارتحل إلى المشرق في أواخر أيام مالك الإمام ، فسمع منه " الموطأ " سوى أبواب من الاعتكاف ، شك في سماعها منه ، فرواها عن زياد شبطون ، عن مالك ، وسمع من الليث بن سعد ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن وهب ، وعبد الرحمن بن القاسم العتقي ، وحمل عن ابن القاسم عشرة كتب سؤالات ، ومسائل ، وسمع من القاسم بن عبد الله العمري ، وأنس بن عياض الليثي .

                                                                                      ويقال : إنه لحق نافع بن أبي نعيم مقرئ المدينة ، وأخذ عنه . وهذا بعيد ، فإن نافعا مات قبل مالك بعشر سنين .

                                                                                      ولازم ابن وهب ، وابن القاسم ، ثم حج ، ورجع إلى المدينة ليزداد من مالك ، فوجده في مرض الموت ، فأقام إلى أن توفاه الله ، وشهد جنازته ، ورجع إلى قرطبة بعلم جم ، وتصدر للاشتغال ، وازدحموا عليه ، وبعد صيته ، وانتفعوا بعلمه وهديه وسمته .

                                                                                      وكان كبير الشأن ، وافر الجلالة ، عظيم الهيبة ، نال من الرئاسة والحرمة ما لم يبلغه أحد .

                                                                                      روى عنه : ولده أبو مروان عبيد الله ، ومحمد بن العباس بن الوليد ، ومحمد بن وضاح ، وبقي بن مخلد ، وصباح بن عبد الرحمن العتقي ، وخلق سواهم .

                                                                                      كان أحمد بن خالد بن الحباب الحافظ يقول : لم يعط أحد من أهل [ ص: 521 ] العلم بالأندلس من الحظوة ، وعظم القدر ، وجلالة الذكر ، ما أعطيه يحيى بن يحيى .

                                                                                      وبلغنا أن يحيى بن يحيى الليثي كان عند مالك بن أنس - رحمه الله ، فمر على باب مالك الفيل ، فخرج كل من كان في مجلسه لرؤية الفيل ، سوى يحيى بن يحيى ، فلم يقم ، فأعجب به مالك ، وسأله : من أنت ؟ وأين بلدك ؟ ثم لم يزل بعد مكرما له .

                                                                                      وعن يحيى بن يحيى ، قال : أخذت بركاب الليث ، فأراد غلامه أن يمنعني فقال الليث : دعه . ثم قال لي : خدمك العلم . قال : فلم تزل بي الأيام حتى رأيت ذلك .

                                                                                      وقيل : إن عبد الرحمن بن الحكم المرواني صاحب الأندلس نظر إلى جارية له في رمضان نهارا ، فلم يملك نفسه أن واقعها ، ثم ندم ، وطلب الفقهاء ، وسألهم عن توبته ، فقال يحيى بن يحيى : صم شهرين متتابعين ، فسكت العلماء ، فلما خرجوا قالوا ليحيى : مالك لم تفته بمذهبنا عن مالك أنه مخير بين العتق والصوم والإطعام ؟ قال : لو فتحنا له هذا الباب ، لسهل عليه أن يطأ كل يوم ، ويعتق رقبة ، فحملته على أصعب الأمور لئلا يعود .

                                                                                      [ ص: 522 ] قال أبو عمر بن عبد البر : قدم يحيى بن يحيى الأندلس بعلم كثير ، فعادت فتيا الأندلس بعد عيسى بن دينار الفقيه عليه ، وانتهى السلطان والعامة إلى رأيه ، وكان فقيها حسن الرأي ، وكان لا يرى القنوت في الصبح ، ولا في سائر الصلوات ، ويقول : سمعت الليث بن سعد يقول : سمعت يحيى بن سعيد الأنصاري يقول : إنما قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحوا من أربعين يوما يدعو على قوم ، ويدعو لآخرين . قال : وكان الليث لا يقنت .

                                                                                      ثم قال ابن عبد البر : وخالف يحيى بن يحيى مالكا في اليمين مع الشاهد ، فلم ير القضاء به ولا الحكم وأخذ بقول الليث بن سعد .

                                                                                      قال : وكان يرى جواز كراء الأرض بجزء مما يخرج منها ، على مذهب الليث ، ويقول : هي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خيبر . [ ص: 523 ] وقضى برأي أمينين إذا لم يوجد في أهل الزوجين حكمان يصلحان لذلك .

                                                                                      قال أبو عمر : وكان يحيى بن يحيى إمام أهل بلده ، والمقتدى به منهم ، والمنظور إليه ، والمعول عليه ، وكان ثقة عاقلا ، حسن الهدي والسمت ، يشبه في سمته بسمت مالك . قال : ولم يكن له بصر بالحديث .

                                                                                      قلت : نعم ، ما كان من فرسان هذا الشأن ، بل كان متوسطا فيه - رحمه الله .

                                                                                      قال ابن الفرضي : كان يفتي برأي مالك ، وكان إمام وقته ، وواحد بلده ، وكان رجلا عاقلا .

                                                                                      قال محمد بن عمر بن لبابة : فقيه الأندلس : عيسى بن دينار ، وعالمها : عبد الملك بن حبيب ، وعاقلها : يحيى بن يحيى .

                                                                                      ثم قال ابن الفرضي في " تاريخه " : وكان يحيى بن يحيى ممن اتهم ببعض الأمر في الهيج - يعني : في القيام والإنكار على أمير الأندلس - قال : فهرب إلى طليطلة ، ثم استأمن ، فكتب له الحكم الأمير المعروف [ ص: 524 ] بالربضي أمانا ، فرد إلى قرطبة .

                                                                                      قال عبد الله بن محمد بن جعفر : رأيت يحيى بن يحيى نازلا عن دابته ، ماشيا إلى الجامع يوم جمعة ، وعليه عمامة ورداء متين ، وأنا أحبس دابة أبي .

                                                                                      قال أبو القاسم بن بشكوال الحافظ كان يحيى بن يحيى مجاب الدعوة ، قد أخذ نفسه في هيئته ومقعده هيئة مالك الإمام بالأندلس ، فإنه عرض عليه قضاء الجماعة ، فامتنع ، فكان أمير الأندلس لا يولي أحدا القضاء بمدائن إقليم الأندلس ، إلا من يشير به يحيى بن يحيى ، فكثر لذلك تلامذة يحيى بن يحيى ، وأقبلوا على فقه مالك ، ونبذوا ما سواه .

                                                                                      نقل غير واحد وفاة يحيى بن يحيى في شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين وبعضهم قال : في سنة ثلاث والأول أصح .

                                                                                      أخبرنا بكتاب " الموطأ " الإمام المعمر مسند المغرب أبو محمد عبد الله بن محمد بن هارون الطائي كتابة من مدينة تونس ، قال : أخبرنا [ ص: 525 ] القاضي أبو القاسم أحمد بن يزيد بن بقي المالكي قراءة عليه في سنة عشرين وستمائة ، قال : أخبرنا محمد بن عبد الحق القرطبي قراءة ، قال : أخبرنا الإمام محمد بن فرج مولى ابن الطلاع ، قال : أخبرنا القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث سماعا ، أخبرنا أبو عيسى يحيى بن عبد الله بن يحيى بن يحيى بن يحيى الليثي قراءة - وتوفي في رجب سنة سبع وستين وثلاثمائة .

                                                                                      قال : أخبرنا عم أبي الفقيه أبو مروان عبيد الله بن يحيى بن يحيى - وتوفي في رمضان سنة ثمان وتسعين ومائتين - قال : أخبرنا أبي قال : حدثنا مالك بن أنس سوى فوته من الاعتكاف ، فذكر " الموطأ " .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية