التوجيه غير المباشر وأثره في التربية والسلوك

27/12/2005| إسلام ويب

تعني كلمة التربية: الإشراف على من يراد تربيته وحسن القيام عليه، ورعايته بالتغذية والتوجيه حتى يبلغ رشده. وهي أيضًا تعهد المربَين وتوجيههم والتدرج معهم في ذلك وسياستهم حتى يبلغوا المأمول. والتربية تحمل في طياتها رعاية الفطرة وتنمية المواهب والقدرات وتوجيهها لإيجاد ورثة صالحين يحملون عقيدة الأمة ومنهجها.
وقد سلك المربون والدعاة دروبا متعددة، واستخدموا أساليب شتى لتحقيق مرادهم من تربية النشء، وتوجيه المدعوين ومن هذه الأساليب أسلوب التوجيه غير المباشر:

وإذا كان يقصد بالتوجيه المباشر (في العملية التربوية) توجيه الحديث و الخطاب صراحة إلى المخاطَبين، وهذا النوع ينتشر في حلقات العلم، ودروس الوعظ، وفصول الدراسة، وقاعات المحاضرات، وهو توجيه مباشر وصريح بألفاظه وعباراته.
فإن التوجيه غير المباشر هو ما يسميه علماء التربية بالتأثير المتمركز حول المربَي، من خلال عوامل مؤثرة يستوعبها الشخص المقصود من خلال مدركاته ومن ثم يحدث التغيير المطلوب.

وينتظم التوجيه غير المباشر مجالات متعددة، من خلال المؤثرات البيئية، أو عن طريق الصحبة والرفقة، أو حوادث وقضايا فارقة، ومصادفات عارضة، أو مواقف عادية قد لا يكون المقصود منها أصلاً التوجيه والتأثير، لكن يستفيد منها الشخص. ولا نعدو الحقيقة حين نقول إن كثيرًا مما يكتسبه الناس من ثقافات ومعارف، ومهارات وعادات، بل ربما عقائد وأخلاق، تكون عن طريق البيئة والخلطة والإعجاب بالآخرين دون أن يوجهوا لاكتسابه توجيهًا مباشرًا.

الوسائل والأساليب:
من خلال التأمل والنظر يمكن تحديد بعض الأساليب والوسائل التي يتم من خلالها التوجيه غير المباشر. وهذه الأساليب تنقسم إلى نوعين: أساليب لغوية (كلامية)، وأساليب عملية.

أولاً: الأساليب الكلامية:
وذلك باستخدام ألفاظ وتراكيب اللغة في تقوية المعنى المطلوب، واستعمال أساليبها من استعارة، وكناية، وتورية، والتفاف، ومجاز، لإيصال هذا المعنى بالطريق غير المباشر.

1ـ أسلوب التعريض:
وهو "كلام له وجهان يطلق أحدهما والمراد لازمه".  وهذا أسلوب يسلكه المربون والدعاة والمأدبون حين يكون التصريح مُخرِجًا عن سِكَّة الأدب والوقار والمروءة، أو يكون الإعلان بالنصح المباشر يهتك حجاب الهيبة، ويورث الجرأة والمفسدة، أو يكون التصريح مهيِّجًا على الإصرار والعناد، فيأتي التعريض ليستميل النفوس الفاضلة، والأذهان الذكية، والبصائر اللماحة.
قيل لإبراهيم بن أدهم: الرجل يرى من الرجل الشيء أو يبلغه عنه.. أيقول له؟ قال: هذا تبكيت، ولكن يعرض.
وكل ذلك من أجل رفع الحرج عن النفوس، واستثارة دواعي الخير فيها، ولا سيما إذا علمت أن التعريض سنة محفوظة عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما روى البخاري في الأدب المفرد والبيهقي بسند صحيح موقوفًا: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب". وكان يقول مخاطبا أصحابه: "ما بال أقوام يفعلون كذا، وما بال أقوام يقولون كذا".

2ـ الكناية:
وهي ذكر الشيء بذكر لوازمه، ويحتاج إليها المربي للتعبير عن المعنى القبيح باللفظ الحسن، وعن الفاحش بالطاهر، وهي باب من أبواب المجاز عريض.. وقد استخدمه النبي صلى الله عليه وسلم في وصف أبي الجهم حين استشارته فاطمه بنت قيس في خطبة أبي الجهم لها؟ فقال صلى الله عليه وسلم عنه: "لا يضع العصا عن عاتقه" كناية عن كثرة ضربه للنساء.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعمل الأساليب اللفظية في التوجيه غير المباشر في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله"[رواه مسلم].
ولما بلغه عن أناس أنهم يواصلون الصيام قال: "ما بال رجال يواصلون؟ إنكم لستم مثلي"[رواه مسلم]. وفي حديث الثلاثة الذين سألوا عن عبادته فكأنهم تقالُّوها، فألزموا أنفسهم بالسهر والرهبنة والصوم، فلما بلغه أمرهم قال: "ما بال أقوام قالوا كذا وكذا؟ ولكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني"[رواه مسلم].
ولقد كان هذا النوع من الكلام معروفًا عند العرب، كما في المثل السائر: "إياك أعني واسمعي يا جارة"، وهو مثل يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئًا غيره.

ثانيا: الأساليب العملية
ويقصد بها ما يكون به التوجيه والتعليم والتربية بطريقة عملية، عن طريق التأمل أو المشاهدة أو الإعجاب، وينتظم ذلك عدة صور أخص منها:

القدوة: فالنماذج البشرية العليا تثير الإعجاب إثارة تحرك دوافع المحاكاة والتقليد لتلك النماذج المتفوقة، فيتخذ الناس منهم منابر قدوة ومعالم اهتداء في أعمالهم وأقوالهم ومفاهيمهم. وهذا التأثير قد يكون سلبًا أو إيجابًا حسب موقع القدوة.

وفي ديننا تعتبر القدوة سبيلاً من سبل التعليم والدعوة؛ حتى أمر الله نبيه أن يتخذ له قدوة من أنبياء الله يقتدي بهم:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}[الأنعام:90]. ونحن مأمورون كذلك باتخاذه صلى الله عليه وسلم أسوة وقدوة:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}[الأحزاب:21].

ومع ما يستفاد من وجود القدوات في تقليدهم فإن وجودهم يعطي الآخرين قناعة بأن ما هم عليه من مكارم ومحاسن يمكن تحقيقه في أرض الواقع، وهو في متناول الناس، علاوة على التأثير الكبير الناتج عن الرؤية العينية "فليس من رأى كمن سمع".
وقد خرج البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتمًا من ذهب، فنبذه فقال صلى الله عليه وسلم: لا ألبسه أبدًا، فنبذ الناس خواتيمهم". قال ابن بطال: فدل ذلك على أن الفعل أبلغ من القول.
والخلاصة: أن القدوة من أعظم الوسائل المساعدة على التربية والدعوة وتكوين ذاتية المتلقي دونما توجيه مباشر.

2 ـ البيئة: فالاجتماعية وصف ملازم للبشر، ومن خلال الاحتكاك بالخلق يكتسب المرء تلقائيًا كثيرًا من الصفات والأخلاق والأفعال والأعراف، وقد تتنامى بعض العلاقات فيكون تأثيرها أكبر من غيرها، ومن هنا يظهر دور البيئة البيتية والتعليمية وأثر الصحبة، ولابد أن ننبه على دور الخادمات والمربيات على أطفالنا.

3 ـ وسائل الإعلام: ولا يخفى ما لها من أثر في حياة الناس، فهي معهم في كل مكان حضرًا وسفرًا، وحلاًّ وترحالاً، ويدل على خطورة هذه الوسيلة ما صرح به الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية حين قال: "إن استراتيجيتنا يجب أن تتجاوز التعامل مع القادة إلى الشعوب، ومن أهم وسائل تحقيق هذا التوجه وسائل الإعلام، وأهمها التليفزيون، فهو الوسيلة القادرة بطبيعتها على السيطرة على أدمغة الشعوب".

ومعلوم أن الأثر غير المباشر لهذه الوسيلة أشد فتكًا من كل وسيلة أخرى، فهي تجِدُّ في محاصرة المشاهد وملاحقته بتأثيراتها وإغراءاتها ليسلك الوجهة المطلوبة، ولترويض عقله وفكره وقناعاته إلى الناحية المرادة.
والحق أن الإعلام بكافة وسائله يشكل نافذة مشرعة تدخل منها كل رياح التغريب والتغيير لمبادئ الأمة وأخلاقيات المجتمع، وأكثر ذلك يكون عن طريق التوجيه غير المباشر.

4 ـ القصة: وهي من أفضل الوسائل في التوجيه الغير المباشر، إذا إنها تحكي أحداثًا وعبرًا ودروسًا حول أبطال القصة، مما يجعل القارئ يرى أنه ليس هو المقصود المباشر بهذه الأحداث والوقائع، ولذا فهي تؤثر بمضامينها في الفكر والعاطفة، وتدفع إلى المحاكاة والتقليد في الخُلُق والعمل.
والقصة في الغالب تدخل إلى أعماق النفوس دون استئذان؛ فهي تحكي واقعًا ولو وهميًا وتقدم أفكارًا حية مجسدة، ومع جودة الحبكة يحدث الاندماج والانفعال الذي يبعث على التأثر.

إن ثمت ميزة واضحة لهذا النوع من التوجيه ذلك هو شعور الفرد بأنه يكتسب هذه المعارف وتلك الخبرات باستقلالية تامة من غير توجيه أو إلزام أو إكراه، ففي هذا النوع من التوجيه فائدتان:
إشعار الفرد بأنه تعلم ما تعلمه واكتسب ما اكتسبه بنفسه من غير وجود فضل أو منَّة لأحد عليه. والفائدة الثانية: هي تفادي العقبات النفسية والمعوقات الحسية والتي تمنع في كثير من الأحيان من قبول التوجيه المباشر. وبهذا يرضى الشخص المقصود غروره، ويسير في الطريق التي رسمت له متوهمًا أنه يسير فيه بمحض اختياره وإرادته.

وربما قد تكون هناك أساليب كلامية أو عملية أخرى لم نتكلم عنها لكن المقصود في النهاية التنبيه على أهمية هذه النوعية من نوعيات التوجيه لما لها من أثر فعال ومردود نافع.

www.islamweb.net