حول كتاب (إعجاز القرآن)

10/03/2009| إسلام ويب

كتاب فريد في بابه، وصفه الشيخ رشيد رضا بأنه سِفْر "لا كالأسفار، أتى فيه بما لم تأت به الأوائل، فكان مصداقاً للمثل السائر: كم ترك الأول للآخر". ووصفه سعد زغلول، بقوله: "كأنه تنـزيل من التنـزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم". وقال عنه يعقوب صروف: "يجب على كل مسلم عنده نسخة من القرآن: أن تكون عنده نسخة من هذا الكتاب". إنه كتاب (إعجاز القرآن) لأديب الإسلام محمد صادق الرافعي، فماذا أودع الرافعي في هذا الكتاب؟ 

الكتاب في أصله كان باباً من أبواب كتاب (تاريخ آداب العرب)، ثم بدا لمؤلفه أن يفرد هذا الباب بكتاب مستقل؛ لتعم به المنفعة، ويسهل على الناس تداوله وتناوله.

تضمن الكتاب عناوين رئيسة، محورها الأساس القرآن الكريم، وإعجازه البياني على وجه الخصوص؛ فأنت واجد في فهرس الكتاب عناوين مثل: تاريخ القرآن، مفردات القرآن، تأثير القرآن في اللغة، الجنسية العربية في القرآن، آداب القرآن، القرآن والعلوم، سرائر القرآن، إعجاز القرآن، حقيقة الإعجاز، أسلوب القرآن، نظم القرآن، البلاغة في القرآن، إلى غير ذلك من العناوين ذات الشأن القرآني. وإليك المفاصل الأساسية للكتاب. 

صعوبة اقتحام موضوع الإعجاز

يقرر الرافعي بداية أن الكتابة في موضوع الإعجاز القرآني ليست بالأمر اليسير، فإن اقتحام هذا البحث "مما لا يسعه طوق إنسان، وإن أسرف على نفسه من القهر، ولا يصلب عليه قلم كاتب، وإن كان هذا القلم في يد الدهر، ولا بد للباحث في أوله من فلتات الضجر، وإن اعتدَّ، وفي أثنائه من سقطات العزم، وإن اشتدَّ، وفي آخره من العجز والانقطاع دون الحد". 

ويشير الرافعي بهذا الخصوص إلى أن الناس ما زالوا قديماً وحديثاً يطرقون هذا الباب، و"يأخذون في ناحيته، ويختلفون إليه، ويعتزمون في ذلك. وقليل منهم من وصل، وقليل من هؤلاء من اتصل".

والرافعي إذ يقرر صعوبة الخوض في هذا الموضوع، لا يدعي لنفسه أنه أحاط بجوانبه كافة، بل يقول: "ولسنا ندعي أننا أشرفنا على الأمد، وأوفينا على معجزة الأبد، فإن هذا أمر ضيق كثير الالتواء لمن تلمَّس جوانبه، واقتحم مصاعبه" .

ولصعوبة الخوض في هذا الموضوع يطلب من قارئه أن يطيل الفكر والتأمل في كتابه، عساه أن يتهدى إلى معنى لم يصل هو إليه، بل هو فوق ذلك، يطلب منه أن يشاركه النظر والفكر للوصول قدر المستطاع إلى بيان وجه الصواب في هذا الموضوع، فها هو ذا يخاطب قارئه، فيقول: "فإنا لم نُسقط عنك كل المؤنة، ولم نعطك إلى حدِّ الكفاية التي تورث الاستغناء، بل نهجنا لك سبيلاً إلى الفكر تتقدم أنت فيه، وأعناك على جهة في النظر تبلغ ما وراءها، وتركنا لك متنفساً من الأمر تعرف أنت فيه نفسك...".

مقدمات بين يدي الحديث عن الإعجاز

قبل أن يُبحر الرافعي في الحديث عن إعجاز القرآن، يستبق ذلك بمقدمات ممهدات، يرى أنه لا بد منها قبل الخوض في موضوع الإعجاز؛ فيقرر بداية أن القرآن في إعجازه "مَشْغَلة العقل البياني العربي في كل الأزمنة...كما أنه مشغلة الفكر الإنساني". ثم هو يصف القرآن بأنه "سر السماء، فهو نور الله في أفق الدنيا حتى تزول، ومعنى الخلود في دولة الأرض حتى تدول...كتاب السماء إلى الأرض مستقراً ومستودعاً، وقد جاء بالإعجاز الأبدي الذي يشهد على الدهر، ويشهد الدهر عليه". ويصف آياته بأنها "آيات منـزلة من حول العرش، فالأرض بها سماء هي منها كواكب". ويصف ألفاظه بأنها "إذا اشتدت فأمواج البحر الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة". 

ثم هو يتحدث عن (تاريخ القرآن)، ويصف فعل عثمان رضي الله عنه، بأنه"حصَّن القرآن، وأحكم الأسوار حوله، ومنع الزمن أن يتطرق إليه بشيء، وجعله بذلك فوق الزمن". 

ويتعرض لمسألة (التلحين في القرآن)، ويقرر بهذا الصدد، أن "التعبد بفهم معاني القرآن في وزن التعبد بتصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراءة". والرافعي يريد أن يقرر هنا، أن الله سبحانه كما تعبد عباده بفهم كلامه، فهو أيضاً تعبدهم بالنطق الصحيح لألفاظه وحروفه.

ثم يأتي على قوله صلى الله عليه وسلم: (إن القرآن أنزل على سبعة أحرف)، متفق عليه، فيذكر أقوال العلم في معنى الحديث، ثم يختار أن المراد بالحديث اللغات التي تختلف بها لهجات العرب؛ لأن العرب ما كانوا يفهمون من معنى (الحرف) في الكلام إلا اللغة. 

وتحت عنوان (تأثير القرآن في اللغة)، يذكر الرافعي أنه "لولا القرآن وأسراره البيانية ما اجتمع العرب على لغته؛ إذ من شأن الكمال إذا اتفق في شيء -كالكمال البياني في القرآن - أن يجمع عليه طالبيه...ومن شأن النقص إذا تمثل في شيء أن يزيد في تفريق من يفترقون عنه". 

وتحت عنوان (الجنسية العربية في القرآن)، يذهب الرافعي إلى أن "الأمم إن لم تكن لها جامعة لسانية، لا يجمعها الدين ولا غير الدين إلا جمع تفريق"، وكأنه يريد أن يقول: إن لغة القرآن هي التي جمعت أمة الإسلام، وبالتالي فلا وجود لهذه الأمة من غير لغتها. 

وتحت عنوان (آداب القرآن)، يذكر الرافعي أن "آداب هذا الكتاب الكريم إنما هي آداب الإنسانية المحضة في هذا النوع، أنى وجدت، وحيث تكون"، ويقرر أن المسلمين ما فرطوا في آداب القرآن الكريم إلا منذ فرطوا في لغته، فأصبحوا لا يفهمون كلمة، ولا يدركون حكمة، بل فوق هذا يعتبر أن غربة الدين التي يعيشها المسلمون اليوم، إنما مردها إلى غربة لغتهم، حيث أصبحت لغتهم غريبة بينهم، فأصبحوا هم بالتالي غرباء عن دينهم. 

حقيقة الإعجاز

بعد تلك المقدمات التأسيسية، يشرع الرافعي بالحديث على صلب الموضوع (إعجاز القرآن)، ويذكر بادئ ذي بدء أن "الإعجاز شيئان: ضعف القدرة الإنسانية في محاولة المعجزة ومزاولته على شدة الإنسان واتصال عنايته، ثم استمرار هذا الضعف على تراخي الزمن وتقدمه؛ فكأن العالم كله في العجز إنسان واحد، ليس له غير مدته المحدودة". 

ثم بعد يشرع بدراسة تاريخية نقدية لما كُتب في موضوع الإعجاز، والمذاهب التي قيلت في المراد بالإعجاز، ويخلص إلى تقرير حقيقة الإعجاز، فيقول: "القرآن معجز بالمعنى الذي يُفهم من لفظ الإعجاز على إطلاقه، حين ينفي الإمكان بالعجز عن غير الممكن، فهو أمر لا تبلغ منه الفطرة الإنسانية مبلغاً، وليس إلى ذلك مأتى ولا جهة"، إلى أن يقول: "فالقرآن معجز في تاريخه...ومعجز في أثره الإنساني، ومعجز كذلك في حقائقه...وإنما مذهبنا بيان إعجازه في نفسه من حيث هو كلام عربي".

بعد أن يبين الرافعي مذهبه في المراد بإعجاز القرآن، يأخذ في تفصيل مذهبه، فيذكر تحت عنوان (نظم القرآن) أن "الحرف الواحد من القرآن معجز في موضعه؛ لأنه يمسك الكلمة التي هو فيها، ليمسك بها الآية والآيات الكثيرة"، ثم يخلص إلى أن سر الإعجاز إنما هو في (النظم)، وجهات النظم -كما يرى- ثلاث: الحروف، والكلمات، والجمل. ويفرد فصلاً لكل جهة من جهات النظم الثلاث. 

فيما يتعلق بحروف القرآن، يذهب الرافعي إلى أن لحروف القرآن أصواتاً موسيقية، بيد أن الرافعي مع تقريره لهذه الخاصية العجبية، يقرر أن القرآن ليس من الموسيقى، بل هو يعلو عليها. 

وفيما يتعلق بكلمات القرآن، يرى الرافعي أن "القرآن إنما أعجز في اللغة بطريقة النظم، وهيئة الوضع، ولن تستوي هذه الطريقة إلا بكل ما فيه على جهته ووضعه، فكل كلمة منه ما دامت في موضعها فهي من بعض إعجازه". ويأتي بالأمثلة التي تؤكد أن تقديم كلمة أو تأخيرها في القرآن يخل بالنظم القرآني، وكذلك لو أبدلنا كلمة بكلمة لاضطرب النظم. 

وفيما يتعلق بجمل القرآن، يقرر الرافعي "أن العرب أوجدوا اللغة مفردات فانية، وأوجدها القرآن تراكيب خالدة". ويقرر أيضاً، "تختلف الألفاظ ولا تراها إلا متفقة، وتفترق ولا تراها إلا مجتمعة...فأنت ما دمت في القرآن حتى تفرغ منه، لا ترى غير صورة واحدة من الكمال، وإن اختلفت أجزاؤها في جهات التركيب، وموضع التأليف".

ثم هو تحت عنوان (أسلوب القرآن) يذكر كلاماً نفيساً حول أساليب الكتابة، ثم يخلص إلى أن القرآن الكريم إنما ينفرد بأسلوبه؛ لأنه ليس وضعاً إنسانيًّا البتة. 

القرآن والعلم

حول العلاقة بين القرآن والعلم يتوقف الرافعي غير يسير، ويقرر جملة من الحقائق بهذا الصدد؛ فهو مثلاً يعتبر أن القرآن كان له أثر بالغ على العقل الإنساني، وهو "بآثاره النامية معجزة أصلية في تاريخ العلم كله"، وأنه "لو لم يكن القرآن الكريم لكان العالم اليومَ غيرَ ما هو في كل ما يستطيل به"، ومن ثَمَّ كان القرآن "هو الباب الذي خرج منه العقل الإنساني المسترحل، بعد أن قطع الدهر في طفولة وشباب". 

وبالمقابل، يرى الرافعي أن العلوم قد أفادت غاية الإفادة في "تفسير بعض معاني القرآن، والكشف عن حقائقه". ويُتحف قارئه بمثال لهذا التناغم والانسجام بين القرآن والعلم، من خلال تفسيره لقوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} (المؤمنون:12)، على ضوء ما كشف عنه العلم الحديث بهذا الخصوص. إلى أن يقول: "وكل ما هذه سبيله من الآيات العلمية في القرآن الكريم، فأنت لا بد واجد فيه من قوة المعاني أكثر مما في العقل العربي من قوة الفهم وقوة التعبير؛ لتكون قوة الدلالة فيه يوم تتهيأ للأمم وسائلها العلمية دليلاً من أقوى أدلة الإعجاز". 

ويلفت الرافعي الانتباه بهذا الخصوص إلى أمر ذي بال، حاصله أن من جملة إعجاز القرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه إلا القليل من تفسير القرآن؛ إذ لو فسر للعرب ما يحتمله زمنهم، وتطيقه أفهامهم، لجمد القرآن جموداً تهدمه عليه الأزمنة والعصور، ولكنه ترك تاريخ الإنسانية يفسر كتاب الإنسانية. 

كما أن الرافعي يتعرض لمسألة معارضة القرآن، ومدعي الوحي، ويقرر بهذا الصدد، أن من زعم أنه يملك القدرة على معارضة القرآن، فهو أحد رجلين: إما جاهل يصدق في نفسه، وإما عالم يكذب على الناس.

خاتمة المطاف

يذكر المؤلف في خاتمة كتابه أن ما ذكره في موضوع الإعجاز إنما هو على سبيل الإجمال، والإشارة، والمثال، وأنه قليل من كثير؛ إذ إن "القرآن كتاب كل عصر، وله في كل دهر دليل من الدهر على الإعجاز، ونحن قد قلنا -والكلام للرافعي- في غير الجهات التي كتب فيها كل من قبلنا، وسيقول بعدنا فيما يفتح الله به". 

والرافعي يعرف أكثر من غيره أن استيفاء موضوع الإعجاز ليس في طوق البشر مجتمعين، فضلاً أن يكون لأحد منهم، ومن ثَمَّ فهو يختم كتابه بالقول: "ونحن نرجو في البيان الذي قصدنا إليه، أن نكون قد عرَّفنا على حقه، وصدقه، وجئنا به من فصِّه ونصه، بلغنا من جملته ما لا يقصر عن الإفادة، إن قصر عن الإجادة، وما لا ينزل مقداره إلى حد النقصان إن لم يبلغ حد الزيادة، وأن نكون قد كُفينا، وإن لم نكن قد استوفينا". 

ثم نحن بعدُ ننصح القارئ بما نصح به الشيخ رشيد رضا قراء العربية عامة، والمسلمين خاصة، وطلاب العلم منهم على الأخص: بأن يقرؤوا هذا الكتاب، بغية الاستعانة على النبوغ في بلاغة لغتهم، والتفقه في كتاب الله، والتعرف على إسرار إعجازه.

أخيراً، ليس فيما عرضناه من مضامين هذا الكتاب غُنية عن قراءته ومعاناته، بل كان القصد تحريك همة القارئ، ودفعه إلى خوض غماره، والوقوف على نفائسه، وكل ما نرجوه ألا نكون بعرضنا هذا قد هضمنا الكتاب حقه ومكانته. 

الكتاب طُبع أكثر من مرة، وفي عدة دور نشر، والطبعة التي اعتمدنا عليها طبعة دار الكتاب العربي في بيروت، وقد طُبعت سنة 1410هـ-1990م.

www.islamweb.net