حول كتاب الظاهرة القرآنية

03/05/2009| إسلام ويب

كتاب مثير وغير عادي في آن معاً، صح عزم مؤلفه على معاناة دراسته دراسة الحريص المتغلغل، وهَدَف من خلاله إلى بيان انفصال الظاهرة القرآنية عن الظاهرة النبوية. إنه كتاب "الظاهرة القرآنية" للأستاذ مالك بن نبي، فماذا عن مضمون الكتاب؟ 

لعل أهم ما يبين قيمة هذا الكتاب وأهميته، ما ذكره الأستاذ محمود شاكر في مقدمة تقديمه لهذا الكتاب، حيث قال رحمه الله: "فليس عدلاً أن أقدم كتاباً، هو يقدم نفسه إلى قارئه...وإنه لعسير أن أقدم كتاباً هو نهج مستقل. أحسبه لم يسبقه كتاب مثله من قبل. وهو منهج متكامل يفسره تطبيق أصوله. كما يفسره حرص قارئه على تأمل مناحيه".

تقديم الكتاب

جاء تقديم الشيخ محمود شاكر لهذا الكتاب ليضفي على الكتاب قيمة فوق قيمته الحقيقة، وقد انصب تقديم الشيخ شاكر على قضيتين أساسيتين:

الأولى: قضية الشعر الجاهلي التي أثارها طه حسين، والتي تركت في العقل الحديث أثراً لا يمحى إلا بعد جهد جهيد. وقد بين الشيخ باختصار القول الفصل في هذه القضية.

والثانية: حقيقة الإعجاز القرآني، حيث قرر الشيخ شاكر أن معرفة (إعجاز القرآن) أمر لا غنى عنه لمسلم ولا لدارس، وأن القرآن المعجز هو البرهان القاطع على صحة النبوة، أما صحة النبوة فليست برهاناً على إعجاز القرآن.

والشيء المهم الذي يقرره الشيخ شاكر بهذا الصدد أن وجه الإعجاز القرآني إنما كان من جهة أن القرآن طلب من العرب -الذين نزل بلغتهم القرآن- أن يستبينوا في نظمه وبيانه انفكاكه من نظم البشر وبيانهم، من وجه يحسم القضاء بأنه كلام رب العالمين.

فكرة الكتاب

يذكر مالك أنه هدفه من هذا الكتاب دراسة الظاهرة القرآنية وفق منهج تحليلي، يبين من خلاله مباينة الظاهرة النبوية للظاهرة القرآنية، ليصل في النهاية إلى أن القرآن من عند الله، وليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا المنهج الذي يسلكه مالك لدراسة الظاهرة القرآنية، يحقق من الناحية العملية -بحسب مالك- هدفاً مزدوجاً: الأول: أنه يتيح للشباب المسلم فرصة التأمل الناضج للدين. الثاني: أنه يقترح إصلاحاً مناسباً للمنهج القديم في تفسير القرآن.

وقد استهل مالك دراسته للظاهرة القرآنية بمدخل فصل فيه محنة العقل الحديث في العالم الإسلامي، بين من خلاله افتتان العقل المسلم بالتقدم العلمي الذي أحرزه الغرب، ودور المستشرقين في التمهيد لهذا الانبهار، ومما قاله بهذا الصدد: إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين، قد بلغت درجة خطيرة من الإشعاع، لا نكاد نتصورها".

وهذا الإشعاع -بحسب مالك- كان من أعظم الأسباب وأبعدها خطراً في "العقل" الحديث، الذي يريد أن يدرك الظاهرة القرآنية إدراكاً يرضى عنه، ويطمئن إليه. وفي هذا السياق، ينتقد مالك بشدة ما ذكره المستشرق مرجليوث عن الشعر الجاهلي.

فصول الكتاب 

تضمن الكتاب بين دفتيه عشرة فصول، خصص المؤلف الفصل الأول (الظاهرة الدينية) للحديث عن طبيعة الظاهرة الدينية. وكان الهدف من هذا الفصل المقارنة بين المذهب الغيبي، الذي يعتبر الدين للإنسان ظاهرة أصلية في طبيعته، ومكون أساس في بناء الحضارة. والمذهب المادي الذي يعتبر الدين مجرد عارض تاريخي للثقافة الإنسانية.

الفصل الثاني (الحركة النبوية) تحدث فيه المؤلف عن مبدأ النبوة، وخصائص النبوة. وبيَّن من خلال الفصل الطبيعة البشرية والنفسية لظاهرة النبوة عموماً.

الفصل الثالث (أصول الإسلام) تحدث فيه مالك عن مصادر دين الإسلام، وقرر في هذا الفصل نقطتين رئيستين:

الأولى: أن الإسلام هو الدين الوحيد بين جميع الأديان الذي ثبتت مصادره منذ البداية، على الأقل فيما يختص في القرآن.

والثانية: أن القرآن خلال تاريخه لم يتعرض لأدنى تحريف أو تبديل، وليست هذه حال العهدين القديم والجديد.

الفصل الرابع (الرسول)، في هذا الفصل يقرر مالك أنه لا يمكن الاستغناء في دراسة الظاهرة القرآنية عن معرفة الذات المحمدية، ومن هنا عكف على دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بدءاً بطفولته، ومروراً بزواجه بخديجة رضي الله عنها، وصولاً إلى بعثته والوحي إليه.

الفصل الخامس (كيفية الوحي)، سعى مالك في هذا الفصل إلى تميز السمات الخاصة بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ لكي يتوصل من خلال ذلك إلى أن ظاهرة الوحي خارجة عن شخصه، وأنها ليست ظاهرة ذاتية، كما ذهب لذلك كثير من المستشرقين. ثم يحدد معنى الوحي بأنه: "المعرفة التلقائية والمطلقة لموضوع لا يشغل التفكير، وغير قابل للتفكير".

الفصل السادس (اقتناعه الشخصي)، يحاول مالك من خلال هذا الفصل أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم من ظاهرة الوحي، كان بحاجة إلى التثبت من مقياسين يدعم بهما اقتناعه: مقياس ظاهري للتحقق من وقوع الظاهرة، وهذا مقياس ذاتي محض، يقتصر على ملاحظته وجود الوحي خارج الإطار الشخصي. ومقياس عقلي لمناقشتها، وهذا مقياس موضوعي، يقوم على المقارنة الواقعية بين الوحي المنزل، وما ورد من تفاصيل محددة في كتب اليهود والنصارى.

الفصل السابع (مقام الذات المحمدية في ظاهرة الوحي)، ينطلق المؤلف في معالجته لظاهرة الوحي من منهج تحليلي، فيحلل خطاب جبريل للرسول، بقوله: {اقرأ} (العلق:1)، وجوابه صلى الله عليه وسلم: (ما أنا بقارئ). ويخلص المؤلف من معالجته لهذا الفصل أن الظاهرة القرآنية مفاصلة تماماً ومنفصلة عن الظاهرة النبوية؛ وبالتالي فثمة فصل قاطع بين الذات المحمدية، والوحي القرآني.

الفصل الثامن (الرسالة)، في هذا الفصل يدفع المؤلف قول الذين يريدون أن يفسروا الظاهرة القرآنية وفق نظرية (اللاشعور).

الفصل التاسع (الخصائص الظاهرية للوحي)، هذا الفصل من أهم فصول الكتاب وأطولها، وقد عالجه المؤلف وفق العناوين التالية: (التنجيم، الوحدة الكمية، مثال على الوحدة التشريعية، مثال على الوحدة التاريخية، الصورة الأدبية للقرآن، مضمون الرسالة، العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس، ما وراء الطبيعة، أخرويات، كونيات، أخلاق، اجتماع، تاريخ الوحدانية).

يؤكد مالك أن الوحي من حيث كونه ظاهرة تمتد في حدود الزمن، يتميز بخاصتين ظاهرتين هامتين: تنجيم الوحي. ووحدته الكمية.

يقصد مالك بـ (تنجيم) الوحي نزوله على دفعات وفترات. وهو يقرر بهذا الصدد أن القرآن لو نزل جملة واحدة، لتحول سريعاً إلى كلمة مقدسة خامدة، وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية، لا مصدراً يبعث الحياة في حضارة وليدة. وفوق ذلك فهو يرى أن الحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام، لا سر لها إلا في هذا التنجيم.

ويقصد بـ (الوحدة الكمية) أن آياته تنزل لمعالجة موضوع معين ومحدد. يقول في بيان هذا المعنى: "فكل وحي مستقل يضم وحدة جديدة إلى المجموعة القرآنية".

وحول العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس، يذكر مالك أن القرآن على الرغم من أنه يعلن بكل وضوح التشابه والقرابة إلى الكتب السابقة، فإنه يحتفظ بصورته الخاصة في كل فصل من فصول الفكرة التوحيدية.

وفي المبحث المتعلق بالحديث عن ما وراء الطبيعة، يؤكد مالك أن الإسلام يعرض عقيدته الغيبية الخاصة بطريقة أكثر مطابقة للعقل، وأكثر تدقيقاً، وفي اتجاه أكثر روحية.

ومن أهم الوقفات التي يقف عندها مالك في هذا الفصل مسألة العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس، ولتوضيح هذه العلاقة يقارن المؤلف بين قصة يوسف عليه السلام، كما وردت في القرآن، وكما وردت في العهد القديم. ويخلص من خلال هذه المقارنة إلى أن رواية القرآن تنغمر باستمرار في مناخ روحاني، نشعر به في مواقف وكلام الشخصيات التي تحرك المشهد القرآني. وأيضاً فإن نتيجة هذه المقارنة تدفع فرضين اثنين: الأول: وجود تأثير يهودي مسيحي في الوسط الجاهلي. ثانيهما: كون النبي صلى الله عليه وسلم تلقى تعليماً مباشراً عن الكتب السابقة.

الفصل العاشر (موضوعات ومواقف قرآنية)، هذا الفصل خصصه مالك لبحث ما يميز القرآن عن عبقرية الإنسان، وتضمن العناوين التالية: (إرهاص القرآن، ما لا مجال للعقل فيه، فواتح السور، المناقضات، الموافقات، المجاز القرآني، القيمة الاجتماعية لأفكار القرآن).

ومن أهم الأفكار التي قررها مالك في هذا الفصل، أن الدين في ضوء القرآن يبدو ظاهرة كونية، تحكم فكر الإنسان وحضارته، كما تحكم الجاذبية المادة، وتتحكم في تطورها.

ملاحظات نقدية

على الرغم من أهمية موضوع الكتاب والأفكار التي تضمنها، فإن ذلك لا يمنعنا من أن نسجل بعض الملاحظات حول هذا الكتاب.

أولها: ما ذكره الشيخ شاكر في تقديمه للكتاب، من أن مدخل الدراسة التي صدر به مالك كتابه وبعض فصول الكتاب، يوهم بأن الغرض من الكتاب تثبيت قواعد في (إعجاز القرآن). والحق أن منهج مالك في تأليفه هذا دال على أن هدفه إثبات صحة دليل النبوة، وصدق دليل الوحي، وأنه كلام الله لا كلام البشر. وليس هذا هو (إعجاز القرآن)، بل هو أقرب إلى أن يكون باباً من (علم التوحيد)، استطاع مالك أن يبلغ فيه غايات بعيدة، قصر عنها أكثر من كتب من المحدثين وغير المحدثين.

ثانيها: أن مالكاً اعتبر أن المشكلة في فهم الإعجاز القرآني مرده إلى منهج التفسير القائم على أساس المقارنة مع الشعر الجاهلي، والصواب -كما قال الشيخ شاكر- أن الشعر الجاهلي هو الأساس الذي يبنى عليه الحديث عن مسألة (إعجاز القرآن)، كما ينبغي أن يواجهها العقل الحديث، وليس أساس هذه المشكلة هو تفسير القرآن على المنهج القديم.

وأيَّا ما كان الأمر، فإن هذه الملاحظات لا تقلل من شأن هذا الكتاب، بل على العكس من ذلك، تدفع به إلى دائرة الاهتمام والضوء في ظل ظروف أصبحت فيه الحملة على القرآن وأهله مكشوفة على المستويات كافة.

وعلى الجملة، فإن قيمة الكتاب -من وجهة نظرنا- تبدو من جهتين:

الأولى: التقديم النقدي للكتاب، الذي قام به الشيخ محمود شاكر.

الثانية: تفسير الظاهرة القرآنية على أساس يُقنع العقل الحديث. 

أخيراً

فإن الكتاب يحتاج إلى جهد غير عادي من قارئه، وخاصة ممن ليس له سابق عهد في قراءة كتب مالك رحمه الله. ومنشأ هذا أمران:

أحدهما: أن لغة مالك غير مألوفة للقارئ العادي، ولا تخلو من بعض الصعوبة.

ثانيهما: أن مالكاً لا يكتب بالعربية، وإنما يكتب بالفرنسية، ثم يُترجم المترجمون ما يكتب من أفكار. ولا شك أن الترجمة تشوش فكرة الكاتب أحياناً، وربما تفسدها، أو على الأقل لا تعبر تماماً عما يريد كاتب الأصل قوله.

الكتاب صدرت طبعته الأولى بالفرنسية 1946، وصدرت طبعته العربية الأولى 1958، وقام بترجمته عبد الصبور شاهين. وصدرت طبعته العربية الثانية 1961م. وصدرت له منذ عهد غير بعيد طبعة جديدة عن دار الفكر بدمشق. وتزيد صفحات الكتاب على الثلاثمائة صفحة.  

www.islamweb.net