المحاظر العلمية في موريتانيا

29/03/2009| إسلام ويب

نقصد بالتعليم الأصلي أو المحظري ذلك النمط من التعليم الذي يتم في مدارس أهلية طوعية قرآنية أو فقهية. وقد ظلت هذه المؤسسات ذات الوظائف المتعددة (الاجتماعية والثقافية والتربوية) تنشر المعارف العربية والإسلامية بمختلف فنونها في ربوع الصحراء، وما تزال المحظرة تضطلع بهذه المهمة في نقاط عديدة من موريتانيا مستقبلة طلاباً موريتانيين وغير موريتانيين يفدون إليها من كل فج رغم شح مواردها وقسوة ظروف الدرس بها.

ويمكن تقسيم المحاظر الموريتانية إلى :
- محاظر جامعة
- محاظر متخصصة
- محاظر قرآنية.

النشأة والتطور
ولا يستبعد الدارسون  أن هذه المحاظر تأسست  بدخول الإسلام إلى هذه  المنطقة أواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي ويفترضون أن يكون التجار قد اضطلعوا بدور بارز في هذا الصدد حيث تمكنوا من ترسيخ الاهتمام بالقراءة والكتابة وبث الوعي الديني والخلقي.
وبغض النظر عن رباط ابن ياسين التعليمي فإن الشائع في الروايات الشفهية المتداولة حتى الآن أن الأمير اللمتوني أبا بكر بن عمر بعد انفصاله عن ابن تاشفين بالمغرب وعودته إلى الصحراء جاء معه بفقهاء لتأسيس مدارس في هذه المنطقة ربما تكون هي البذور الأولى للمؤسسات المحظرية التي ميزت التاريخ الموريتاني منذ ذلك الحين وإلى يوم الناس هذا.

وتسمح المعطيات المتوفرة حتى الآن باعتماد تحقيب أولي قد لا يخلو من تخمين لتاريخ التعليم حسب المراحل الأساسية التالية:
1- مرحلة المدن
يعتقد بعض الدارسين أن النشأة الفعلية للمحاظر بصحراء الملثمين تعود إلى ظهور الدعوة المرابطية بها، إذ "كان العلم حضرياً في عهد المرابطين وقروناً من بعدهم" كما يقول الخليل النحوي الذي اختار لهذه المرحلة عنوان "الحواضر مهد المحاظر"، ذلك أن حواضر مثل أوداغست وولاته وتيشيت ووادان وشنقيط كانت مراكز علم مكينة احتضنت المؤسسات المحظرية الأولى في هذه البلاد "السائبة".
وكانت معظم تلك المدن واحات ومحطات تجارية اضطلعت أيضاً بأدوار تجارية مهمة، إذ كانت من المحطات الهامة في مسالك التجارة الصحراوية. وقد عرفت هذه الحواضر فترات ازدهار اقتصادي يرجح أن تكون لها صلة بالنهضة العلمية والأدبية بها "

2-
مرحلة البادية
إذا كانت المحظرة قد نشأت –منذ المرحلة المرابطية على الأقل- في الحواضر، فإنها سرعان ما أصبحت مؤسسة تربوية بدوية من حيث الأساس، إذ انتشرت من المدن إلى الأرياف مغطية المجال الشنقيطي الفسيح من ضفاف المحيط الأطلسي إلى أزواد " مالي" ومن نهر السنغال إلى الحدود الجزائرية والمغربية.
وفي أرجاء الصحراء الموريتانية المترامية الأطراف وعلى ضفاف المحيط والنهر تكاثرت المحاظر وتشعبت وأصبحت بمثابة "جامعات" بدوية متنقلة على ظهور العيس تعرف نوعاً من الإبداع والإنتاج العلمي والأدبي في محيط بدوي لا عهد له بالدولة المركزية ولا وجود فيه للعمران.

وهكذا عرفنا –لأول مرة في التاريخ على ما نعلم- أول بادية تتعاطى الثقافة العالمة درساً وتأليفاً، إذ احتضنت هذه البادية "مجموعة البداة الوحيدة التي تملك تقاليد ثقافية مكتوبة بينما يعيش الآخرون [أهل البوادي الأخرى] عالة على أهل المدن" .

وقد لاحظ بعض الدارسين هذه الخصوصية التي ميزت سكان الصحراء الموريتانية عن غيرهم من سكان المنطقة حين تحدثوا عن مظاهر من الثقافة العالمة في هذه البادية. يقول كامي دولس (
Camille Douls
) "إن البيضان - قبائل العرب -  يتخذون من خيامهم أكاديميات حقيقية" . ويمضي هذا الرحالة الذي زار المنطقة سنة 1887 قائلاً "إن جميع هؤلاء البداة تقريباً يتعاطون كتابة العربية" مؤكداً أن "المعرفة والذكاء اللذين يميزان هؤلاء البدو يبلغان درجة من التطور تعد مفارقة لما يطبع المسلمين المقيمين بإفريقيا الشمالية".
وهكذا فإذا كانت البادية في عرف الدارسين –منذ ابن خلدون وإلى اليوم- تعتبر بيئة غير صالحة للإنتاج الفكري ناهيك عن الازدهار العلمي والفني فإن واقع المحاظر التي ميزت بوادي موريتانيا منذ القرن السابع عشر وواقع الحواضر الإسلامية في نفس الفترة يبين أن البادية ليست دائماً رديفة الجهل والأمية كما أن المدينة لا تساوي بالضرورة الازدهار المعرفي. فما هي سمات تلك المدارس البدوية؟
السمات العامة

تميزت المدارس التقليدية في موريتانيا بميزات لعل أبرزها:
1- الحرية: إذ يتمتع الطالب المحظري بحرية اختيار:
- المحظرة التي سينتسب إليها.
- الشيخ الذي سيدرس عنده.
- المادة والمتن اللذين يرغب في دراستهما.
- الفترة الزمنية الملائمة لدراسته.
وتسمح هذه المساحة الواسعة من الحرية بمستوى من تحقيق الذات يجعل جل الطلاب يتعاطفون تعاطفاً وجدانياً مع محيطهم المحظري.

2- المساواة: فالمدرسة التقليدية تكاد تكون الفضاء الوحيد الذي تذوب فيه أشكال التمايز الطبقي والعرقي إلخ.، ويتضح ذلك من خلال العناصر التالية:
* عدم اعتبار الفوارق الاجتماعية، فالانتساب إليها يتحدد بالرغبة والاستعداد،
* عدم اعتبار فوارق السن:
- الرجل الطاعن في السن قد يدرس مع الشباب،
- الشاب اليافع قد يتولى تدريس من هم أسن منه.
* عدم اعتبار المستوى المادي، إذ لا فرق بين غني وفقير، بل إنها طورت آليات تبناها المجتمع مع اختلافات جزئية بين هذه الناحية أو تلك من نواحي البلاد لعل من أهمها:
- "التأبيد" الذي يقتضي التكفل بالطالب المغترب أو المعدم.
- "الختمة" التي توجب على الجميع تقديم هدايا للتلاميذ كلما تقدموا مراحل معينة في دراستهم.
- "شاة التلاميذ" التي تقدم في مناسبات الزواج والعقيقة وذلك أنهم ألزموا كل من عنده فرح أن يقدم هدية لطلاب المحظرة.
وتجسد هذه "الحقوق" مستوى من التكافل يضمن التعليم لمن يرغب فيه.

3- المجانية: - الانتساب إليها لا يتطلب رسوماً
- الميسورون يدرسون على نفقة ذويهم
- المعدمون ينفق عليهم:- شيخ المحظرة ، أو بقية أهل الحي، أو يتقاسمون مع زملائهم الميسورين.
وتجسد هذه المجانية درجة من التآزر الاجتماعي.

تعتبر الوظيفة الأساسية لهذه المدارس هي نشر العلوم والأخلاق الإسلامية بما يقتضيه ذلك من التركيز على ما يعرف بعلوم الغاية (القرآن، الفقه، العقيدة، الحديث)، غير أن استيعاب هذه العلوم يستدعي بالضرورة معرفة بعلوم الآلة وخاصة العلوم اللغوية التي يتوقف على معرفتها فهم النص الديني من قرآن وسنة.
وقد أدرك الموريتانيون ما لعلوم الآلة من قيمة في استيعاب العلوم الشرعية، ففضلوا الاشتغال بها على الاشتغال بالعبادة.
حفظت هذه المحاظر العلوم العربية والإسلامية في الصحراء وخرجت علماء شهد لهم الآخرون بالتميز والنبوغ ولا زالت هذه المحاظر تعطي وتنتج إلى الآن .

www.islamweb.net