القدس بين التطهير العرقي والموقف الأوروبي

06/12/2009| إسلام ويب

ثلاث قضايا ظهرت في الأيام الأخيرة، أعادت القدس إلى صدارة وسائل الإعلام وأجندة الحراك الدولي في المنطقة والرأي العام العالمي، كانت الأولى قرار الحكومة الإسرائيلية الذي يزعم "تجميد الاستيطان" في الضفة الغربية ويستثني القدس، وكانت الثانية تقريراً رسمياً يثبت أن سلطات الاحتلال كثَّفت في الأشهر الأخيرة سياسة التطهير العرقي في المدينة، وظهور مسودتين لوثيقتين أوروبيتين، واحدة توثق المؤامرات الاحتلالية في القدس والثانية تدعو للاعتراف بالمدينة عاصمة لدولة فلسطين.

ورغم أن التجميد المعلن للبناء في مستوطنات الضفة الغربية المحتلة هو بدعةٌ إسرائيلية مخادعة، وكل تسلسل الأحداث في الأيام الأخيرة يثبت هذه الكذبة الكبرى، فإن استثناء القدس من القرار إياه إنما يؤكد الإصرار الإسرائيلي على الرفض الفعلي لحلٍّ دائم؛ إذ إن المؤسسة الإسرائيلية تعي جيداً أنه لا حل من دون القدس. ولكن كما هو معروف فإن جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال في القدس المحتلة متعددة الجوانب وكلها تصب في هدف واحد: سلخ القدس عن الضفة الغربية بحزام استيطاني يخترق المدينة ذاتها ويفصل أحياء ضخمة عن مركزها وطرد الأهالي الفلسطينيين أصحاب المدينة الشرعيين من مدينتهم، وبطبيعة الحال، هناك المؤامرة الكبرى على المقدسات الإسلامية والمسيحية، والخطر المحدق بالحرم القدسي الشريف والمسجد الأقصى المبارك، نتيجة الحفريات من تحته وحوله.

وكان واضحاً أن الهدف الأساس من جدار الفصل العنصري الذي بناه الاحتلال في داخل المدينة المحتلة في السنوات الأخيرة هو سلخ أحياء فلسطينية ضخمة، تُؤوي ما لا يقل عن 150 ألف فلسطيني، تمهيداً لسحب بطاقات الهوية منهم، وعدم اعتبارهم من مواطني المدينة رغم بقائهم في أحيائهم؛ إذ يخطط الاحتلال في مرحلة قريبة للإعلان عن حدود مختلفة لمنطقة نفوذ المدينة تسير وفق مسار جدار الفصل العنصري.

واتضح أن حكومة الاحتلال السابقة، برئاسة إيهود أولمرت، بدأت في تطبيق مخطط التطهير العرقي في ظل الخطاب السياسي المخادع الذي كان يصدر عنها؛ إذ تبين أن وزارة الداخلية فيها سحبت بطاقات الإقامة (الهوية) لحوالي 4600 فلسطيني من أهالي القدس المحتلة، في حين أن سلطات الاحتلال سحبت خلال السنوات الـ40 السابقة، أي حتى العام 2007، بطاقات الهوية من 4 آلاف فلسطيني، ومن المؤكَّد أن هذا النهج مستمر في العام الجاري، ولكن من دون معطيات واضحة، علماً بأن عدد أهالي المدينة الفلسطينيين في هذه المرحلة يبلغ حوالي 250 ألف نسمة. وهذا يعني أن الاحتلال الإسرائيلي بدأ المرحلة الأخطر في مؤامرته على القدس المحتلة، مرحلة التطهير العرقي، بموجب قوانين وضعها لنفسه، وأمام صمت دولي، قد يكون الاتحاد الأوروبي قرر خرقه، ولكن يبقى السؤال: بأي مدى وما جدية الحراك الأوروبي الأخير؟ ففي الأيام الماضية شهدنا وثيقتين أوروبيتين من المفترض أن تتحولا إلى رسميتين في الأسبوع المقبل، إذا لم تطرأ عليهما تغييرات سلبية، إثر المساعي الإسرائيلية لإجهاضهما، والوثيقة الأولى هي مسودة القرار التي أعدّتها السويد التي تتولى رئاسة الاتحاد الأوروبي، وتنوي عرضها على اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد في السابع من الشهر الجاري، وتدعو مسودة القرار إلى الاعتراف بالقدس الشرقية المحتلة عاصمة لدولة فلسطين، على أن يكون الجانب الغربي للمدينة عاصمة ل"إسرائيل". وتشمل مسودة القرار بنوداً مهمةً أخرى، مثل عدم القبول بمزاعم الاحتلال الإسرائيلي في مسألتي تجميد البناء في المستوطنات، وإزالة حواجز عسكرية في الضفة الغربية المحتلة.

أما الوثيقة الثانية، وهي لا تقل أهمية، فهي عبارة عن تقرير ميداني أعده قناصل دول الاتحاد الأوروبي في القدس المحتلة، حول أوضاع المدينة، وهو يوثق رسمياً وعلى مستوى دبلوماسي جميع الجرائم الإسرائيلية في المدينة، من استيطان وتطهير عرقي واعتداءات على الأماكن المقدسة، وتتضمن الوثيقة سلسلة من الاقتراحات للضغط على "إسرائيل" ومقاطعة المستوطنين، وجعل القدس الشرقية المحتلة عنواناً للقاءات أوروبية فلسطينية رسمية، وعدم إجراء لقاءات مماثلة مع مسؤولين إسرائيليين فيها.

وحسب ما نُشر فإن الوثيقة قدمت للاتحاد الأوروبي في أواخر الشهر الماضي نوفمبر، حتى إن مصادر إسرائيلية قدَّرت أن هذه الوثيقة كانت من وراء مسودة القرار التي أعدتها السويد بخصوص القدس. لقد علّمت التجربة الطويلة في التعامل مع المجتمع الدولي ألا نسارع في التفاؤل، فالقرار الأوروبي ذو أهمية كبيرة، ولكن لا يمكن التأكد منه، إلا عندما يصدر رسمياً، كما قرأناه، من دون تعديلات سلبية. ليس هذا فحسب، فقيمة القرار الأولية هي بصدوره، ولكن لاحقاً إذا لم تكن هناك وسائل فعلية للتنفيذ، فإن أهمية القرار تتلاشى، تماماً كالخطاب الأوليّ الذي صدر عن إدارة الرئيس باراك أوباما قبل 5 أشهر، إذ لم ترافقه أدوات ضغط على "إسرائيل"، قبل بدء التراجع عنه كلياً. شهد الموقف الأوروبي الرسمي من الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني في العقدين الأخيرين تقلبات عدَّة، وأخطرها مرحلة السبات الكبيرة طيلة إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش، ومن الواضح أن محركات القرار السياسي متعددة، ولا مجال لاستعراضها هنا، ولكن التحركات الأوروبية في الأشهر الأخيرة بالإمكان اعتبارها صحوة محدودة، إلى أن يتضح مستقبل هذا الحراك.

والقلق الإسرائيلي الرسمي من الموقف الأوروبي الناشئ ليس من منطلق أن أوروبا بإمكانها ممارسة الضغط على "إسرائيل"؛ إذ إن ما يهم "إسرائيل" هو الدعم والمظلة الأميركية لسياستها، ولكن "إسرائيل" تتخوف من أن ينعكس القرار الأوروبي مباشرة على الرأي العام الأوروبي، ومن هناك إلى الولايات المتحدة، مثلما حدث في نهاية سنوات الثمانينيات ومطلع سنوات التسعينيات من القرن الماضي، في ظل انتفاضة الحجر الفلسطينية، وهذا سيناريو يبقى حاليا في إطار الفرضية لا أكثر.

"إسرائيل" لا تقف مكتوفة الأيدي في الساحة الأوروبية، وكل الاحتمالات مفتوحة، ولكن الملاحظ بقلق، أن الصوت العربي كان خافتاً في الأيام الأخيرة في هذه التحركات، ومما لا شك فيه أن ضغطاً عربياً مباشراً على الاتحاد الأوروبي، من شأنه أن يحمي المبادرات الإيجابية التي نقرؤها، وجعلها خطاً رسمياً، تمهيداً لتنفيذ فِعليّ مأمول.

ــــــــــــــــــــــــ

العرب القطرية

www.islamweb.net