ذم كثرة السؤال

03/01/2010| إسلام ويب

حين ينشغل العبد بطلب العلم النافع من حفظ للقرآن، وتعلم مسائل الدين، حين يكون له ورد من العبادة والطاعة و الذكر فإنه لن يكون مشغولا بكثرة السؤال، إنما ينشغل العبد بكثرة الأسئلة حين يكون قليل العمل، فتراه يكثر السؤال والتفريعات والمجادلة، بل تراه يسأل عما لا يعنيه، وهذه الظاهرة هي بلا شك مضادة تماما لسلوك السلف الصالح رضي الله عنهم، وهي قبل ذلك مما يبغضه ربنا جل وعلا، فإن الله لا يحب كثرة السؤال والجدل والمراء والتنطع، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (المائدة:101)

فجدير بالعبد إن أتاه الأمر الشرعي، أن يمتثله ولا يكثر من الأسئلة، فقد يأتيه الجواب بما لا يسره أو بما يثقل عليه كما حصل مع بني إسرائيل حين أمروا أن يذبحوا بقرة، فلو عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لأجزأتهم، لكنهم تنطعوا وتشدقوا وأكثروا الأسئلة حتى شُدِّد عليهم.

وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين أكثروا سؤاله جدا، فقد روى البخاري في كتاب الفتن عن قتادة أن أنساً حدثهم قال: سألوا النبي صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة – أي أضجروه وأحرجوه بكثرة المساءلة – فصعد النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم المنبر فقال: "لا تسألوني عن شيءٍ إلا بينت لكم". فجعلت أنظر يمينا وشمالا فإذا كل رجل رأسه في ثوبه يبكي. يعني خوفا من غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال أنس: ....ثم أنشأ عمر يقول: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، نعوذ بالله من سؤ الفتن.

فكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم" الآية.

ولما نزل قول الله تعالى:( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) قال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، فقال: أكل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه، فقال في الثالثة: أكل عام يا رسول الله؟ قال: "لا . ولو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم".

     لا تسأل مستهزءا أو مناظرا:

إن الأصل أن يسأل الإنسان ليتعلم ويعمل لا ليجادل ويفحم ويناظر، فهناك فرق كبير بن الاستفتاء والمناظرة، فالمناظرة لها مجلسها وشروطها، أما الاستفتاء فهو سؤال للاسترشاد وطلب العلم أو حل إشكال..

وأقبح من هذا أن يسأل طالب العلم الشيخ ليمتحنه ولا شك أن هذا النوع من الأسئلة هو من البدع المحدثة التي لم يعرفها أسلافنا رضي الله عنهم، ومثل هذه الأسئلة قد تتسبب في توريط العلماء، وهل كانت محنة الإمام البخاري رحمه الله وخروجه من بلده إلا من مثل هذا؟!!

ثم إن كثرة الأسئلة بما لا يترتب عليه عمل إنما هو استكثار من حجج الله على العبد، لما سأل أحدهم عالما فأكثر عليه قال له العالم: كل ما تسأل عنه تعمل به؟ قال: لا . قال: فما تصنع بازدياد حجة الله عليك؟.

     ذم كثرة السؤال:

ولأن هذه الآفة من أشد الآفات ضررا على الفرد والمجتمع فقد ذمها الشرع ونهى عنها وبين قبحها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه".

وقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تقربوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها".

إن ما تركه الله ليس عن نسيان كما قال تعالى:( وما كان ربك نسيا). وعن سلمان رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء فقال: " الحلال ما أحل الله في كتابه، و الحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما قد عفا عنه، فلا  تتكلفوا ".وقد فقه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المسألة فكانوا يتهيبون من سؤاله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال: "كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء، وكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع".

مواضع عشرة يكره السؤال فيها

هناك مواضع ذكرها الشاطبي رحمه الله يكره السؤال فيها ونذكرها هنا باختصار وهي:

أولا السؤال عما لا ينفع في الدين

كسؤال عبد الله بن حذافة من أبي؟ فهذا لن يعود عليه بأي فائدة، بجانب أنه لو افترض أن أمه قد قارفت ذنباً في الجاهلية، وأنه كان ثمرة هذا الذنب فأي أذية وأي عقوق يكون قد صدر منه في حق أمه وهي إنما كانت في الجاهلية؟! لكن -والحمد الله- الرسول عليه الصلاة والسلام برأها من ذلك. وروي أيضاً أن بعض الناس سألوا: ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط، ثم لا يزال ينمو حتى يصير بدراً، ثم ينقص إلى أن يصير كما كان. فأنزل الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا )[البقرة:189]، فأعرض القرآن الكريم عن إجابة السؤال، وأجاب بما يفيد السائل في دينه؛ لأنه سؤال ليس وراءه فائدة. وفي قوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية، حيث كانوا يعتقدون أنه يحرم على من عاد من الحج وأراد أن يدخل البيت أن يدخله من الباب، ولكن يدخله من الخلف من النافذة، فيمنعون المحرم من الدخول من باب البيت، وبعض العلماء يقول: إن المقصود هنا الإشارة إلى انتقاد هذا الذي سأل عن الأهلة بأن الهلال يبدوا دقيقاً ثم يصير بدراً ثم ينقص ثانية. فقوله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا) يعني أن المشتغل بهذه المسائل كالذي يأتي البيوت من ظهورها، لكن عليك أن تأتي البيوت من أبوابها بأن تسأل عما يفيدك في دينك لا عما لا يعنيك

ثانيا السؤال بعد بلوغ الحاجة

فالنص الشرعي قد يكون واضحاً وظاهراً، ثم بعدما يبلغه العلم يبدأ يشق على نفسه، ويسأل بعدما بلغ من العلم حاجته، كالرجل الذي سأل عن الحج: أفي كل عام يا رسول الله؟ مع أن ظاهر قوله تبارك وتعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )[آل عمران:97] يكفي في امتثاله أن يوقعه الإنسان مرة واحدة في عمره، فظاهره أنه ليس إلى الأبد لإطلاقه. ومن هذا سؤال بني إسرائيل عن البقرة بعد ما قال لهم موسى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً )[البقرة:67] أيَّ بقرة، و لو ذبحوا أي بقرة لانتهى الأمر ولأدوا ما وجب عليهم، لكنه التنطع والتشدد، وكان يكفيهم النص الشرعي بذبح بقرة.

ثالثا السؤال في غير وقت الحاجة
يعني: أن يسأل وهو غير محتاج إلى جوابه في ذلك الوقت.

رابعا السؤال عن صعاب المسائل وشرارها
 أما السؤال عن صعاب المسائل وشرارها فكما جاء النهي عن الأغلوطات في حديث معاوية عند أبي داود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات) والأغلوطات هي المسائل التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها، فيهيج بذلك شر وفتنة.

خامسا السؤال عن علة الحكم
يعني هنا الحكم الشرعي من الأمور التعبدية التي لا يعقل معناها، وهي لها معنى وحكمة وإن لم يطلع على ذلك، كتقبيل الحجر الأسود، وبعض مناسك الحج، أو أي أمر تعبدي كما هو معروف، فيكون الأمر من قبيل التعبد، ثم هو يتنطع ويسأل عن علة هذا الحكم مع أنه من الأمور التعبدية، كالسؤال عن علة قضاء الصوم دون الصلاة في حق الحائض والنفساء. فعن معاذة رضي الله عنها قالت: سألت عائشة رضي الله عنها فقلت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت: (أحرورية أنت؟!). أي: أأنت من الخوارج؟! والخوارج يرون أن الحائض تقضي الصلاة كما تقضي الصوم، فلم تقف هذه المرأة عند ما ورد وحُدَّ لها في الشرع، ولذلك جاء جواب عائشة رضي الله عنها أولاً بأن وبختها وقالت: (أحرورية أنت؟!) أي: أأنت تذهبين مذهب الخوارج؟! ثم قالت: (كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة).

سادسا بلوغ السؤال حد التكلف والتعمق

ويدل على ذلك قوله تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ )[ص:86]، والتكلف هو التنطع في الأسئلة والتعمق، ولما سأل عمر: يا صاحب الحوض! هل ترد حوضك السباع؟ قال صلى الله عليه وسلم: "يا صاحب الحوض! لا تخبرنا؛ فإنا نرد على السباع وترد علينا".

سابعا ظهور معارضة الكتاب والسنة بالرأي من السؤال
هذا من المواضع المذمومة، أن يكون واضحاً من صيغة السؤال أنه يريد أن يعارض القرآن والسنة بعقله وبرأيه وبهواه . ولما قيل لمالك بن أنس رضي الله تعالى عنه: الرجل يكون عالماً بالسنة، أيجادل عنها؟ قال: (لا. ولكن يخبر بالسنة فإن قبلت منه وإلا سكت) فمع أن معه الحق لكنه لا يماري ولا يجادل، فالمراء والجدال من الأخلاق المذمومة.

ثامنا السؤال عن المتشابهات
وعلى ذلك يدل قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ )[آل عمران:7]، وفي الحديث: "متى رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم"، يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدم حفظه الله تعالى:(هؤلاء هم الذين حذرنا الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم منهم، الذين يتتبعون المتشابهات، ولعلنا نجد صورة واضحة جداً في العلمانيين ، والملاحدة من الكفار، هؤلاء الناس هذه مهنتهم وهذه حرفتهم، فهم يتقنون صناعة الشبهات والخوض في الأمور المشتبهة، وعدم رد المتشابه إلى المحكم، فالتمسك بالمتشابه والإعراض عن المحكم مما ينبئ عن وجود هذا المرض والزيغ في القلب، والعياذ بالله عز وجل).

تاسعا السؤال عما شجر بين السلف الصالح
أي الخلاف الذي كان بين الصحابة رضي الله عنهم. فمن المكروه والمذموم أن يخوض الإنسان فيما كان بينهم من الخلاف، وقد سئل عمر بن عبد العزيز عن قتال أهل صفين فقال: (تلك دماء عصم الله منها سيوفنا فلنعصم منها ألسنتنا). وقد سئل آخر عن ذلك في مناسبة أخرى مماثلة فقال: قال تعالى: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ )[البقرة:134]). فالمقصود عدم الخوض حتى لو كان بعض الصحابة مخطئين في ذلك؛ لأن شأننا نحن مع هؤلاء السادة الأطهار الأبرار هو ما ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة الحشر:)وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ([الحشر:10]. فنحن نستغفر لهم فيما اجتهدوا فيه وأخطأوا، ونعتقد أن ما حصل من الصحابة من القتال في موقعة الجمل وصفين إنما هو عن اجتهاد خالص لله عز وجل، يريدون به إحقاق الحق، ولكن هذا أمر قدره الله وقضاه ووقع، وليس لنا أن نخوض في هذا الأمر بالوقوع في أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمن سأل سؤالاً من هذا الباب فقد وقع فيما نُهينا عنه من كثرة السؤال كما بينا.

عاشرا سؤال التعنت وقصد غلبة الخصم
وفي القرآن في ذم نحو هذا قوله عز وجل: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ )[البقرة:204]، (ألد الخصام) أي: مجادل. ومنه قوله تبارك وتعالى: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ )[الزخرف:58] وهو الجدل، كما في قوله تعالى: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ )[الأنعام:121]. ومناسبة هذا أنهم قالوا: هل ما قتله الله حرام وما قتلتموه أنتم أو ما ذبحتموه أنتم يكون حلالاً؟ انظر إلى التلبيس وإيقاع الشبهات في قلوب المؤمنين! فنزلت الآية السابقة. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم" (الألد الخصم) الشخص الشديد الجدل والشديد الخصومة والتعنت، فهذه جملة من المواضع التي يكره السؤال فيها، ويقاس عليها ما سواها. رزقنا الله وإياكم العلم النافع والعمل الصالح ووفقنا لكل خير ،وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

www.islamweb.net