والصلح خير

25/04/2010| إسلام ويب

لقول الله تعالى في الكتاب العزيز :"والصلح خير" أثرٌ بالغٌ في توجهات سلف هذا الأمة ؛ إنهما كلمتان... ولكن أنَّى للبشر أن يحيطوا بهما، أو يبلغوا نهاية ما تقرران من أجل صلاح المجتمع المسلم، واستقامته على ما أراد الله تعالى له؟

وسواء كان نزول الآية الكريمة بسبب حادث معين كما ذكرت الروايات أم كان تشريعاً لتلافي مثل هذه الحالة فهو يمثل قاعدة محكمة عامة، حيث إن النص القرآني يمكن إعماله في كل ما يعرض للمجتمع المسلم أفراداً وأسراً وجماعات، بل بين الأمم بعضها مع بعض إذا توفَّرَ الصدقُ، وحَرَّكَ ذلك الصلح الرضا، وكان عن طيب نفس.

والذي ينبغي أن نذكره جميعاً أن مجتمع الإيمان حين قام ارتكز على قاعدة لم يقم عليها بناء بشري قبل ذلك، وما تيسر لأمةٍ أيا كانت توجهاتها بعد ذلك في أي عصر من العصور، وتحت وطأة أي ظرف من الظروف.

"إنما المؤمنون إخوة" وبمقتضى هذا الإخاء تبرز قيمة الصلح، وبه يزول الخلاف بين الأفراد والأسر والجماعات بما فيه من كدر، ويحل التصافي بما فيه من صدق ووضوح.

إنّ الصلح يغلق منافذ الشر وإن عظمت ويطهر النفوس من وساوس الشيطان وما أكثرها! ويستديم المودة، ويستأصل الضغينة، ويشيع الرضا في النفوس، ويزيل أسباب الخلاف، ويمكن للوفاق والائتلاف.

وقد أعظم الإسلام الصلح، واعتبره العلاج الأمثل الذي لا بديل له ولنتأمل قوله تعالى:
"إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون"

فالقرآن الكريم حين يؤكد الإخاء، ويجعله علاقة وثيقة، ويذكر المؤمنين بتلك النعمة التي جمعتهم بعد تفرق، وألَّفتّ بينهم بعد تناحر، فالعود إليها، والاعتصام بها عند التنازع هو الأصل، ولا طريق إليها سوى الصلح، ولا صلح إلا بالتقوى من المتنازعين المتخاصمين والمُحْتَكَمِ إليهم، والصلح في الإسلام ليس مذهباً من مذاهب البشر، وإنما هو شعيرة من شعائر الله تعالى تترصد الأهواء والنزوات، وتحبط للشيطان سعيه، ولا تؤتي ثمارها إلا في ظلال من تقوى الله تعالى الذي شرعها لعباده، وجعلها الطريق السوي للفوز برحمته "لعلكم ترحمون".

فالصلح الذي شرعه الله تعالى تعاملٌ معه جَلَّ شأنه، ولذا تدور التقوى معه حيث كان في آيات القرآن الكريم يقول الله تعالى:"فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"

فمجالس الصلح واجب ديني يحتمه الشرع، ويجعله علامة من علامات الإيمان، ودليلاً من دلائل تقوى الله تعالى، فضلاً عن كونها أمارة من أمارات الإحسان، وهي منقبة من مناقب الأمة الخاتمة خير أمة أخرجت للناس وإصلاح ذات البين عبادة من أفضل العبادات أشاد الله تعالى، ورسوله بها، فأبان لنا الرسول الكريم فضلها وقداستها.

وفي الحديث: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة،  قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة"
إن مجالس صلح قائمة فاعلة تجتث الخصومات، وتمسح آثار الغضب، وتستبدل بالعداء حباً، وبالخصومة وفاقاً، وربما في جلسة واحدة، حتى وإن كانت في جلسات لا يطول وقتها، يتصافى الخصمان اللذان كان من الممكن أن يظلا خصمين لفترة التقاضي وما أطولها! وربما مدى الحياة.

إن حضور الطرفين بمحض اختيارهما وكامل رضاهما، وإخراج كلٍّ منهما ما عنده، وإبداء وجهة نظره، وإتاحة الفرصة للتحاور بينهما أمور تلقي أضواءً تجلِّي الحقَّ لدى المحكَّمِين بل عند طرفي النزاع، وهذا يختلف تماماً عن عرضها من خلال مذكرات، أو على لسان مدافع لم يعشها بمشاعره وأحاسيسه، لكنه سمعها كغيره، وصاغ لها من القانون حللا أملاها عليه فكره وصاغتها خبرته.
ألا يعتبر حضور الطرفين وحديثهما وتحاورهما ميزة تميزت بها مجالس الصلح؟

إن مجالس الصلح في قطر وفي غيرها من بلاد الإسلام أكدت تميز المسلمين بخصائص أبرزها التحاب والتسامح، ولم تترك هذه المجالس فرصة لتعميق الخصومة، صحيح أنه قد يملأ الغضب الطرفين، ولكن سرعان ما يزول عند التلاقي، ويعلو الإخاء وما يتبعه من قيم فاضلة، وقد لا يستغرق المجلس غير جلسة تشرق بعدها الوجوه، ويطيب القول، ويتعانق من كانا خصمين منذ وقت يسير... هل يمكن أن يحقق القضاء شيئاً من ذلك؟

لمَ لا نلبس هذه المجالس ثوباً عصرياً؟ وتقوم لجان من ذوي الخبرات،والقدرة على تحمل مشاق إصلاح ذات البين والرغبة الأكيدة في سيادته، والبراعة في احتواء الخصوم وإطفاء لهيب الغضب؟

لماذا لا تقوم من هؤلاء وما أكثرهم لجان تحت سمع وبصر الدولة، بحيث يكون لكل مجال لجانه المكونة من أعضاء يعرفون دروبه، ويحيطون بخباياه؟

ويكون في كل لجنة خبراتها البشرية الملائمة لأعبائها، المتقنة لدورها، ولها صلاحيتها، ويلزم بقرارها الطرفان، ويكون رسمياً معتمداً لدى الجهات المسئولة، بعد التصديق عليه كتابياً من طرفي الدعوة، والتوقيع عليه من المحكمين، ثم خاتم اللجنة.

وإصلاح ذات البين عن طريق هذه اللجان أيسر وأسرع، وأدق وأصدق، حيث لا يتم الوفاق والائتلاف إلا بعد اقتناع كاملٍ من الطرفين، وإعلان الرضا، وطيب النفس منهما، ولا شك أنه سيكون للتلاقي، والحوار المباشر، والأخذ والعطاء، وإقناع كلٍّ من الطرفين الآخر الأثر البالغ، وقد يحدث تنازلٌ من أحد الطرفين أو من كليهما، ولكنه تنازل عن طيب نفس، لا إجبار فيه ولا قسر، ولا قهر.

وفي وقت اللجنة متسع للسماع والحوار، وتبصير كلٍّ من الطرفين وتذكيره، وذلك لا يتوفر للقضاء.

وما تصل إليه اللجنة يكون نابعاً من الطرفين، معبراً عن رغبتهما معاً، وهو مختلف تماماً عن الحكم القضائي، حيث إنه إلزام، وقد تختلف معه جهة قضائية أَعْلَى، وقد يكون على صاحب الحقِّ لا له، والقضاة بشر، ومن حقهم الاجتهاد، ولكن صاحب الحق أدرى بحقه، وبذلك ترفع هذه اللجان الحرج عن القضاء، وتحفظ على المتقاضين الوقت المهدر والجهد الضائع.

وأعضاء تلك اللجان أكثر انطلاقاً، وأعظم اتصالاً، وأقدر على تَبَيُّنِ الحق من مصادره الحقيقية، لأنهم أبناء المجتمع، وهم أعرف بالمتنازعين، وأقرب منهم.

وَلَوْ قُدِّر لنا أن نجمعَ ما يمكن العثور عليه من منجزات مجالس الصلح، وأعيد نسخها ومدارستها، أوَ وُقِفَ على ما فيها لآمَنَّا بعظمة أجدادنا، وتفوقهم قضائياً، ذخيرة قضائية تحدث عن فطنة من سبقوا القضاء المعاصر، مع حرصهم على إقامة العدل، وإصلاح ذات البين، والإبقاء على الحب والمودة.

إن احتفاء الإسلام بهذه القيمة (إصلاح ذات البين) ورعاية مسارها، وحسن توجيهها ثم أخذ سلفنا بها، وتميزهم في إعمالها يجعلنا واثقين بمشيئة الله تعالى من النجاح في إعمال هذا الجانب التراثي.

____________
الراية القطرية 7/4/2010م بـ"تصرف"

www.islamweb.net