الإسلام كمجاوز للحداثة و لما بعد الحداثة !

26/09/2010| إسلام ويب

عن مؤسسة الانتشار العربي اللبنانية صدر كتاب " الإسلام كمجاوز للحداثة و لما بعد الحداثة " لمؤلفه الباحث و الكاتب الليبي الدكتور سالم القمودي ..

و من أجل دراسة موضوعه فقد قام الكاتب بتقسيمه إلى ستة أجزاء احتوت على حوالي ستة عشر فصلاً ، وقد ركز الجزء الأول على موضوعات " الإسلام والفلسفة والعلم " ، تم فيه استعراض كافة الإشكاليات المرتبطة بعلاقة هذه الموضوعات ببعضها البعض ، حيث يخلص المؤلف إلى أن الدين هو الذي يملك مفاتيح معرفية نهائية للحقيقة ، وبالتالي فهو القادر على إنهاء حيرة الأسئلة الوجودية التي يثيرها الإنسان منذ القدم ؛ وأن على الفلسفة أن تخفف من ادعاءاتها لمعرفة الحقيقة النهائية.

  كما أن النص ( الإسلام) من عند الله ، وهو سبحانه خالق الإنسان وعقله . وبالتالي فالعداء بين الإسلام والفلسفة أو بين الإسلام والعلم لا مبرر له إطلاقا .

أما في الجزء الثاني فناقش الكتاب مفهوم " الحداثة و ما بعد الحداثة " ، ويري المؤلف أن البدايات المؤسسة للحداثة كرؤية فلسفية بدأت ، ربما ، مع ديكارت  1596م1650 م، حيث غدت الذاتية هي الأساس الفلسفي للحداثة ، ثم بعد ذلك أشعلت أفكار " عصر الأنوار" في القرن الثامن عشر المفرطة في تمجيد العقل ، وسرعان ما تم تجاوز ذلك مع الفلاسفة الألمان أمثال " إيمانويل كانط 1724 -1804 " ، ثم بلغت الذاتية قمتها مع هيغل 1770-1831 الذي اعتبر الذات هي المبدأ المطلق لكل معرفة ، وسرعان ما اعتبر " هيغل " أن الدولة البروسية هي نهاية التاريخ ، وكان ذلك هو المهاد الفلسفي الذي ولدت فيه فكرة " نهاية التاريخ"!

ويجزم المؤلف ، بتحليل معمق ، أن الذاتية أطاحت بحياد العقل ، و الإيمان ، و قطعت الصلة بالماضي ، و فصلت بين الدين والدولة ، كانت تلك هي ملامح الحداثة المنقلبة على الميتافيزيقا [ما وراء الطبيعة]، غير أن التقدم العلمي أكسب الحداثة وهجا و ألقًا غطيا على كل سلبياتها و اختلالاتها
.

وجاء فكر " ما بعد الحداثة " ( أول من استخدمها المؤرخ البريطاني توينبي في سنة 1959) كردة فعل في الإفراط في ذاتية الحداثة التي فشلت بشكل مريع على المستويات الأخلاقية والنفسية والاجتماعية ، وبالتالي تم رفع شعار " نسبية المعرفة و عدم قبول تعميمات تنطبق على كل الثقافات .." ، بل إن البعض " نيتشه" ذهب بعيدا في رد الفعل على مشروع الحداثة و نادي بـ" الفوضى"! ..إن جماع مشروع ما بعد الحداثة يرفض نقديا الصروح الفكرية الفلسفية الكبرى ويتبني الدعوة الحاسمة لتفكيكها كمناهج وأشياء وأفكار وقضايا ..وهكذا ولدت مدارس " الوجودية " و " البنيوية " و " التفكيكية " ..و بالرغم من ذلك لم تستطع " ما بعد الحداثة " إنهاء أزمة الاطمئنان النفسي الاجتماعي ، وكذا القلق والتوتر! مما جعل البعض يصفها بأنها إيديولوجية عدمية تزرع اليباب في كل مظاهر الكينونة الإنسانية وتنذر بالموت .


ويركز الجزء الثالث على مفهوم " اعتبار الإنسان " ، وذلك من خلال تتبع موقف الحداثة وما بعد الحداثة من الإنسان ، فالأولى جعلت الإنسان مركز الكون والعقل مصدرا لكل حقيقة ويقين معرفي ، أما الثانية فقد نقدت " إنسان الحداثة " ، وانقسمت إلى تيارين
:
- الأول عبثي منغمس في اللاعقلية و الفوضوية لا يعترف بمعايير أو قيم إنسانية أو أخلاق موضوعية ..

- الثاني يؤمن أن العلم هو مصدر إلهام للنزعة الإنسانية .. ، وهي مدرسة تلغي مفهوم الذات ومكوناته ، الوعي و الإرادة . بل إن البنيات اللاشعورية هي التي تتحكم في جميع فعالياته .

أما الإسلام فقد أنزل الإنسان مكانه الأنسب ، وفي القرآن الكريم آيات بينات تعكس التكريم الذي حظي به الإنسان الذي فضله الله سبحانه على جميع مخلوقاته وأمر الملائكة بالسجود له ، وحفظ له نفسه و حرّم عليه قتل نفسه أو غيره إلا بالحق ، وحفظ له دينه وعقله و ماله ونسبه ، وحرّم عليه الظلم والاستبداد والطغيان وأمره بالإحسان وإقامة العدل والقسط .ووضّح له سبيل الرشاد والهدى وزكاه  وأعطاه أدوات المعرفة ويسّر له سبل الإدراك ، وعلّمه ما لم يكن يعلم ، وأجاب عن تساؤلاته وحيرته ، وحمّله مسؤولية عمله وكسبه ، وجعل بينه وبين غيره من بني آدم المساواة. وإذا كانت دعوى الحداثة أنها أعادت الاعتبار للإنسان من سطوة الكنيسة و ظلم البابوات وصكوك الغفران ، فإن الإنسان في الإسلام لم يفقد يوما اعتباره كإنسان ولم يفقد حريته وقدرته على المبادرة والاختيار ، لأن ذلك كان اختيارا من الله سبحانه وتعالي
.

أما الجزء الرابع فقد تناول " حقوق الإنسان : آراء وملاحظات" ، حيث إن الموضوع كان من ضمن أهم شواغل الفكر الليبرالي الأوروبي في العصر الحديث ، وكانت بدايتها مع إعلان الاستقلال الأمريكي 1776 ، ثم إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي بعد سقوط الباستيل 1789 ، ودستور الثورة الفرنسية 1793 ، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة 1948 ، وحزمة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية ..و يجدر بالذكر أن كل ذلك كان وليدا خاصا للثقافة الأوروبية والأوضاع المحلية ، وهي بذلك غير قابلة للتعميم و " العالمية " لعدم إدماج تراث باقي الثقافات الأخرى فيها ..!


أما في الإسلام فحقوق الإنسان مستمدة في شرعيتها من الله سبحانه وتعالى وليست منة أو تكريما إلا منه عز وجل ،  ومنها حقوق المرأة في ممارسة دورها في المجتمع بما يكرمها ويحفظ لها مكانتها ، عكسا للفلسفات الأخرى التي تاجرت بالمرأة و حولتها إلى رجل )! وامتهنت إنسانيتها وحولتها إلى سلعة وإعلان ودعاية!

الجزء الخامس انحصر فيه الجهد على مناقشة علاقة " الإسلام والغرب" ، ويري المؤلف أن الغرب لا يريد أن يفهم الإسلام على حقيقته ( بشهادة الأب روبير كاسبار) ، بل إنه أكثر من ذلك يخوض ضده حربا تحت شعارات تبطن غير ما تظهر هي : الديمقراطية و حقوق الإنسان ، والإصلاح وحقوق المرأة ، ومقاومة الإرهاب ..الخ ، ولم ينحصر الجهل بالإسلام في أوساط المثقفين والسياسيين ، بل إن رجال الدين غدوا مثالا على ذلك ، كما هو شأن البابا الحالي للمسيحيين " بنديكت السادس عشر " في محاضرته العدائية الشهيرة في جامعة " ريجينس برغ " في ألمانيا يوم 12/9/2006 ..

أما الجزء الأخير ، فقد حاول أن يتصّور " النهوض الحضاري الإسلامي" ، وذلك من خلال التأكيد على أهمية البعد الديني الأخلاقي الإنساني الذي يصنع التقدم دون الفساد في الأرض أو العدوان والبغي و الظلم على الآخرين . ولا بد من التفريق بين الحداثة كفلسفة ورؤية للكون والحياة والتحديث كمنجز علمي وتقني يسهم في التقدم الإنساني .


وأشار المؤلف إلى أهمية " تصحيح " القراءة الخاطئة للإسلام ، وهي قراءته من خلال مناهج وآليات الآخرين و إيديولوجياتهم ، أو قراءته من خلال التحريف اللاحق بالمسيحية واليهودية ومساواة الإسلام بذلك و افتراض نفس الشيء عليه ، أو قراءة
الإسلام من خلال سلوك المسلمين السياسي!. ،
ويضع المؤلف أسسا وقواعد لقراءة الإسلام بشكل صحيح ، وهي الإيمان والتسليم به  وبما جاء فيه ، وأنه من عند الله , ومرتبط ببعضه البعض ، ومطلق في الزمان والمكان ، ونقرأه لذاته وليس لدواعي إيديولوجية أو مذهبية ..

ويناقش المؤلف شروط النهضة ويحددها في أن ينبع المشروع النهضوي من ذات الأمة الفكرية والثقافية ، وفكر إسلامي معاصر يؤسس على الثروة الفقهية وينفتح على متغيرات العصر ، ويقدم رؤية للعالم ولمكانة الإنسان فيه ، ويفهم حقيقة جوهر الدين وأهميته للمؤمن ، و تجذير الشورى كأصل ثابت للحكم في الإسلام ، وانتهاج التفكير النقدي ، والاعتراف بالرأي الأخر ، وتحقيق العدل ، والارتقاء بمستوى التطبيق ، والمحافظة على حياد العقل ، والانطلاق نحو البناء .. وبذلك يكون المؤلف قد أجاب بثقة علمية على العنوان والافتراض الأساسي لكتابه حول إمكانية أن يكون الإسلام فعلا " مجاوزاً للحداثة و مابعد الحداثة"!!


ويمكن اعتبار هذا الكتاب العاشر في سلسلة من الإصدارات التي بدأها صاحبها منذ أزيد من عقد ونصف إضافة كبرى للمكتبة العربية ، علاوة على أنه يسهم في تكوين العقل العربي والإسلامي بهذه المطارحات النقدية للإشكالات المفاهيمية التي يتصدي لها والتي أثارت الكثير من اللغط في الزمن العربي والإسلامي الراهن ، فإنه أيضا يقدم جهدا علميا ثريا وأصيلا ، لا يكتفي فيه بعرض آراء الفلاسفة والمفكرين ، بل إنه يناقشهم ، ويقدم رأيه بوضوح لا لبس فيه ولا تردد .

_________________
أحمد ولد نافع بـ"تصرف"

www.islamweb.net